للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَدَخَلَ الْمُهَلَّبُ جِيرَفْتَ، ثُمَّ سَارَ يَتْبَعُهُمْ إِلَى أَنْ لَحِقَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ جِيرَفْتَ، فَقَاتَلَهُمْ مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ عَبَدَ رَبِّهِ جَمَعَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! إِنَّ قَطَرِيًا وَمَنْ مَعَهُ هَرَبُوا، طَلَبَ الْبَقَاءِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَالْقَوْا عَدُوَّكُمْ وَهَبُوا أَنْفُسَكُمْ لِلَّهِ.

ثُمَّ عَادَ لِلْقِتَالِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَنْسَاهُمْ مَا قَبْلَهُ، فَبَايَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُهَلَّبِ عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ تَرَجَّلَتِ الْخَوَارِجُ وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ حَتَّى قَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا مَرَّ بِي مِثْلُ هَذَا. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى الْمُهَلَّبِ وَأَصْحَابِهِ، وَهُزِمَ الْخَوَارِجُ وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِيهِمْ، وَكَانَ فِيمَنْ قُتِلَ عَبْدُ رَبِّهِ الْكَبِيرِ، وَكَانَ عَدَدُ الْقَتْلَى أَرْبَعَةَ آلَافِ قَتِيلٍ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَأُخِذَ عَسْكَرُهُمْ وَمَا فِيهِ وَسُبُوا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْبُونَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ يَذْكُرُ قَتْلَ عَبْدِ رَبِّهِ الْكَبِيرِ وَأَصْحَابِهِ:

لَقَدْ مَسَّ مِنَّا عَبَدَ رَبٍّ وَجُنْدَهُ ... عِقَابٌ فَأَمْسَى سَبْيُهُمْ فِي الْمَقَاسِمِ

سَمَا لَهُمْ بِالْجَيْشِ حَتَّى أَزَاحَهُمْ ... بِكَرْمَانَ عَنْ مَثْوًى مِنَ الْأَرْضِ نَاعِمِ

وَمَا قَطَرِيُّ الْكُفْرِ إِلَّا نَعَامَةٌ ... طَرِيدٌ يُدَوِّي لَيْلَهُ غَيْرَ نَائِمِ

إِذَا فَرَّ مِنَّا هَارِبًا كَانَ وَجْهُهُ ... طَرِيقًا سِوَى قَصْدِ الْهُدَى وَالْمَعَالِمِ

فَلَيْسَ بِمُنْجِيهِ الْفِرَارُ وَإِنَّ جَرَتْ ... بِهِ الْفُلْكُ فِي لُجٍّ مِنَ الْبَحْرِ دَائِمِ

وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا تَرَكْنَاهَا لِشُهْرَتِهَا.

وَأَحْسَنَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ وَزَادَهُمْ، وَسَيَّرَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ مُبَشِّرًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ عَنِ الْجَيْشِ وَعَنِ الْخَوَارِجِ، وَذَكَرَ حُرُوبَهُمْ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ بَنِي الْمُهَلَّبِ فَقَالَ: الْمُغِيرَةُ فَارِسُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ، وَكَفَى بِيَزِيدَ فَارِسًا شُجَاعًا، وَجَوَّادُهُمْ وَسَخِيُّهُمْ قَبِيصَةُ، وَلَا يَسْتَحْيِي الشُّجَاعُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ مُدْرِكَةٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ سُمٌّ نَاقِعٌ، وَحَبِيبٌ مَوْتٌ زُعَافٌ، وَمُحَمَّدٌ لَيْثُ غَابٍ، وَكَفَاكَ بِالْمُفَضَّلِ نَجْدَةً. قَالَ: فَأَيُّهُمْ كَانَ أَنْجَدُ؟ قَالَ: كَانُوا كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُعْرَفُ طَرَفُهَا. فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَشْكُرُهُ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُوَلِّيَ كَرْمَانَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيَجْعَلَ فِيهَا مَنْ يَحْمِيهَا وَيَقْدَمُ إِلَيْهِ. فَاسْتَعْمَلَ عَلَى كَرْمَانَ يَزِيدَ ابْنَهُ، وَسَارَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَكْرَمَهُ وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَنْتُمْ عَبِيدُ الْمُهَلَّبِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ كَمَا قَالَ لَقِيطُ بْنُ يَعْمُرَ الْإِيَادِيُّ فِي صِفَةِ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>