للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَجَاءَ يَوْمًا صَعْصَعَةُ وَبَحِيرٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَرِدَاءٌ، فَقَعَدَ خَلْفَهُ، وَدَنَا مِنْهُ كَأَنَّهُ يُكَلِّمُهُ، فَوَجَأَهُ بِخِنْجَرٍ مَعَهُ فِي خَاصِرَتِهِ، فَغَيَّبَهُ فِي جَوْفِهِ، وَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ بُكَيْرٍ! فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ الْمُهَلَّبَ، فَقَالَ لَهُ: بُؤْسًا لَكَ! مَا أَدْرَكْتَ بِثَأْرِكَ وَقَتَلْتَ نَفْسَكَ، وَمَا عَلَى بَحِيرٍ بَأْسٌ. فَقَالَ: لَقَدْ طَعَنْتُهُ طَعْنَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ لَمَاتُوا، وَلَقَدْ وَجَدْتُ رِيحَ بَطْنِهِ فِي يَدِي. فَحَبَسَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَقَبَّلُوا رَأْسَهُ. وَمَاتَ بَحِيرٌ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ صَعْصَعَةُ لَمَّا مَاتَ بَحِيرٌ: اصْنَعُوا الْآنَ مَا شِئْتُمْ، أَلَيْسَ قَدْ حَلَّتْ نُذُورُ أَبْنَاءِ بَنِي عَوْفٍ وَأَدْرَكْتُ بِثَأْرِي؟ وَاللَّهِ لَقَدْ أَمْكَنَنِي مِنْهُ خَالِيًا غَيْرَ مَرَّةٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ سِرًّا. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَسْخَى نَفْسًا بِالْمَوْتِ مِنْ هَذَا. وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ بَعَثَهُ إِلَى بَحِيرٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَقَتَلَهُ، وَمَاتَ بَحِيرٌ بَعْدَهُ.

وَعَظُمَ مَوْتُهُ عَلَى الْمُهَلَّبِ، وَغَضِبَتْ عَوْفٌ وَالْأَبْنَاءُ وَقَالُوا: عَلَامَ قُتِلَ صَاحِبُنَا، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِثَأْرِهِ؟ فَنَازَعَهُمْ مُقَاعِسُ وَالْبُطُونُ، وَكُلُّهُمْ بُطُونٌ مِنْ تَمِيمٍ، حَتَّى خَافَ النَّاسُ أَنْ يَعْظُمَ الْأَمْرُ، فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَى: احْمِلُوا دَمَ صَعْصَعَةَ، وَاجْعَلُوا دَمَ بَحِيرٍ بِبُكَيْرٍ، فَوَدَوْا صَعْصَعَةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَبْنَاءِ يَمْدَحُ صَعْصَعَةَ:

لِلَّهِ دَرُّ فَتًى تَجَاوَزَ هَمُّهُ ... دُونَ الْعِرَاقِ مَفَاوِزًا وَبُحُورَا

مَا زَالَ يُدْئِبُ نَفْسَهُ وَرِكَابَهُ ... حَتَّى تَنَاوَلَ فِي الْحُرُوبِ بَحِيرَا

ذِكْرُ دُخُولِ الدَّيْلَمِ قَزْوِينَ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ

كَانَتْ قَزْوِينُ ثَغْرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَاحِيَةِ دَيْلَمَ، فَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ لَا تَبْرَحُ مُرَابِطَةً بِهَا، يَتَحَارَسُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رَابِطٍ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا عَظِيمَ الْغَنَاءِ فِي حُرُوبِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَزْوِينَ رَأَى النَّاسَ يَتَحَارَسُونَ فَلَا يَنَامُونَ اللَّيْلَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَخَافُونَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمُ الْعَدُوُّ مَدِينَتَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَقَدْ أَنْصَفُوكُمْ إِنْ فَعَلُوا، افْتَحُوا الْأَبْوَابَ وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ. فَفَتَحُوهَا.

وَبَلَغَ ذَلِكَ الدَّيْلَمَ فَسَارُوا إِلَيْهِمْ وَبَيَّتُوهُمْ وَهَجَمُوا إِلَى الْبَلَدِ، وَتَصَايَحَ النَّاسُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ: أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَنْصَفُونَا وَقَاتِلُوهُمْ.

فَأَغْلَقُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>