فَدَعَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ وَلِصَلَاحِكُمْ مُحِبٌّ، وَلَكُمْ فِي كُلِّ مَا يُحِيطُ بِكُمْ نَفْعُهُ نَاظِرٌ، وَقَدْ كَانَ رَأْيِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي بِمَا رَضِيَهُ ذَوُو أَحْلَامِكُمْ وَأُولُو التَّجْرِبَةِ مِنْكُمْ، وَكَتَبْتُ بِذَلِكَ إِلَى أَمِيرِكُمُ الْحَجَّاجِ، فَأَتَانِي كِتَابُهُ يُعَجِّزُنِي وَيُضَعِّفُنِي، وَيَأْمُرُنِي بِتَعْجِيلِ الْوُغُولِ بِكُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ أَمْضِي إِذَا مَضَيْتُمْ، وَآبَى إِذَا أَبَيْتُمْ.
فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَقَالُوا: بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ، وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ، وَلَهُ صُحْبَةٌ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ يَرَى بِكُمْ مَا رَأَى الْقَائِلُ الْأَوَّلُ: احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ، وَإِنْ نَجَا فَلَكَ. إِنَّ الْحَجَّاجَ مَا يُبَالِي أَنْ يُخَاطِرَ بِكُمْ فَيُقْحِمَكُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَيَغْشَى اللُّهُوبَ وَاللُّصُوبَ، فَإِنْ ظَفَرْتُمْ وَغَنِمْتُمْ أَكَلَ الْبِلَادَ وَحَازَ الْمَالَ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ ظَفِرَ عَدُوُّكُمْ كُنْتُمْ أَنْتُمُ الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءَ الَّذِينَ لَا يُبَالِي عَنَتَهُمْ، وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِمْ. اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ، وَبَايِعُوا الْأَمِيرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ. فَنَادَى النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: فَعَلْنَا فَعَلْنَا، قَدْ خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ.
وَقَامَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ! إِنَّكُمْ إِنْ أَطَعْتُمُ الْحَجَّاجَ جَعَلَ هَذِهِ الْبِلَادَ بِلَادَكُمْ مَا بَقِيتُمْ، وَجَمَّرَكُمْ تَجْمِيرَ فِرْعَوْنَ الْجُنُودَ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّرَ الْبُعُوثَ، وَلَنْ تُعَايِنُوا الْأَحِبَّةَ أَوْ يَمُوتَ أَكْثَرُكُمْ فِيمَا أَرَى، فَبَايِعُوا أَمِيرَكُمْ، وَانْصَرِفُوا إِلَى عَدُوِّكُمُ الْحَجَّاجِ فَانْفُوهُ عَنْ بِلَادِكُمْ. فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ، وَنَفْيِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَعَلَى النُّصْرَةِ لَهُ. وَلَمْ يُذْكَرْ عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى بُسْتٍ عِيَاضَ بْنَ هِمْيَانَ الشَّيْبَانِيَّ، وَعَلَى زَرَنْجَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ التَّمِيمِيَّ، وَصَالَحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ إِنْ ظَهَرَ فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهِ أَبَدًا مَا بَقِيَ، وَإِنْ هُزِمَ فَأَرَادَ مَنَعَهُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَعْشَى هَمْدَانَ وَهُوَ يَقُولُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute