أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْجِدِّ فِي الْقِتَالِ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ الْكُفَّارُ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَتْلًا وَأَسْرًا كَيْفَ شَاءُوا، وَتَحَصَّنَ مَنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ بِهَا، فَوَضَعَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةَ لِيَهْدِمَ سُورَهَا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَامِلًا، وَارْتَحَلَ عَنْهُمْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ، فَلَمَّا سَارَ خَمْسَةَ فَرَاسِخَ نَقَضُوا الصُّلْحَ وَقَتَلُوا الْعَامِلَ وَمَنْ مَعَهُ، فَرَجَعَ قُتَيْبَةُ فَنَقَبَ سُورَهُمْ فَسَقَطَ، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ.
وَكَانَ فِيمَنْ أُخِذُوا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ أَعْوَرُ هُوَ الَّذِي اسْتَجَاشَ التُّرْكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لِقُتَيْبَةَ: أَنَا أَفْدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ آلَافِ حَرِيرَةٍ، قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفٍ. فَاسْتَشَارَ قُتَيْبَةُ النَّاسَ فَقَالُوا: هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْغَنَائِمِ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ كَيْدُ هَذَا، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يُرَوَّعُ بِكَ مُسْلِمٌ أَبَدًا! فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.
وَأَصَابُوا فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالسِّلَاحِ، وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا لَا يُحْصَى، وَلَا أَصَابُوا بِخُرَاسَانَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ الْمُسْلِمُونَ، وَوَلِيَ قَسْمَ الْغَنَائِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَأْلَانَ الْعَدَوِيُّ أَحَدُ بَنِي مِلْكَانَ، وَكَانَ قُتَيْبَةُ يُسَمِّيهِ الْأَمِينَ ابْنَ الْأَمِينِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِينًا.
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ أَمَانَةِ أَبِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا الْبَاهِلِيَّ أَبَا قُتَيْبَةَ قَالَ لِوَأْلَانَ: إِنَّ عِنْدِي مَالًا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَوْدِعَكَهُ وَلَا يَعْلَمَ بِهِ أَحَدٌ. قَالَ وَأْلَانُ: ابْعَثْ بِهِ مَعَ رَجُلٍ تَثِقُ بِهِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَمُرْهُ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ الْمَالَ وَيَنْصَرِفَ. فَجَعَلَ مُسْلِمٌ الْمَالَ فِي خُرْجٍ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَغْلٍ، وَقَالَ لِمَوْلًى لَهُ: انْطَلِقْ بِهَذَا الْمَالِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا جَالِسًا، فَخَلِّ الْبَغْلَ وَانْصَرِفْ. فَفَعَلَ الْمَوْلَى مَا أَمَرَهُ، وَأَتَى الْمَكَانَ، وَكَانَ وَأْلَانُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ وَانْتَظَرَ، وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ مُسْلِمٍ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ فَانْصَرَفَ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَجَاءَ مَوْلَى مُسْلِمٍ فَرَآهُ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبَغْلَ وَرَجَعَ، فَأَخَذَ التَّغْلِبِيُّ الْبَغْلَ وَالْمَالَ وَرَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَظَنَّ مُسْلِمٌ أَنَّ الْمَالَ قَدْ أَخَذَهُ وَأْلَانُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ حَتَّى احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: مَالِي! فَقَالَ: مَا قَبَضْتُ شَيْئًا، وَلَا لَكَ عِنْدِي مَالٌ، فَكَانَ مُسْلِمٌ يَشْكُوهُ إِلَى النَّاسِ، فَشَكَاهُ يَوْمًا وَالتَّغْلِبِيُّ جَالِسٌ، فَخَلَا بِهِ التَّغَلِبِيُّ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْمَالِ، فَأَخْبَرَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَكَانَ مُسْلِمٌ يَأْتِي النَّاسَ وَالْقَبَائِلَ، فَيَذْكُرُ لَهُمْ عُذْرَ وَأْلَانَ وَيُخْبِرُهُمُ الْخَبَرَ.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ قُتَيْبَةُ مِنْ فَتْحِ بِيكَنْدَ رَجَعَ إِلَى مَرْوَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute