وَلَمَّا سَمِعَتِ الْقُوطُ بِهَاتَيْنِ الْهَزِيمَتَيْنِ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِعْلَ طَرِيفٍ، فَهَرَبُوا إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَكَانَ قَدْ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ يَأْكُلُهُمْ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. فَلَمَّا دَخَلُوا طُلَيْطِلَةَ، وَأَخْلَوْا مَدَائِنَ الْأَنْدَلُسِ قَالَ لَهُ يُولْيَانُ: قَدْ فَرَغْتَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَفَرِّقْ جُيُوشَكَ وَسِرْ أَنْتَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ. فَفَرَّقَ جُيُوشَهُ مِنْ مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ، وَبَعَثَ جَيْشًا إِلَى قُرْطُبَةَ، وَجَيْشًا إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَجَيْشًا إِلَى مَالِقَةَ، وَجَيْشًا إِلَى تُدْمِيرَ، وَسَارَ هُوَ وَمُعْظَمُ الْجَيْشِ إِلَى جَيَّانَ يُرِيدُ طُلَيْطِلَةَ. فَلَمَّا بَلَغَ طُلَيْطِلَةَ وَجَدَهَا خَالِيَةً، وَقَدْ لَحِقَ مَنْ كَانَ بِهَا بِمَدِينَةٍ خَلْفَ الْجَبَلِ يُقَالُ لَهَا: مَايَةَ.
فَأَمَّا الْجَيْشُ الَّذِي سَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَإِنَّهُمْ دَلَّهُمْ رَاعٍ عَلَى ثَغْرَةٍ فِي سُورِهَا، فَدَخَلُوا مِنْهَا الْبَلَدَ وَمَلَكُوهُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَصَدُوا تُدْمِيرَ فَلَقِيَهُمْ صَاحِبُهَا، وَاسْمُهُ تُدْمِيرُ وَبِهِ سُمِّيَتْ، وَكَانَ اسْمُهَا أَرْوَيُولَةَ، وَكَانَ مَعَهُ جَيْشٌ كَثِيفٌ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَرَ تُدْمِيرُ النِّسَاءَ، فَلَبِسْنَ السِّلَاحَ، ثُمَّ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا، وَفَتَحَ سَائِرُ الْجُيُوشِ مَا قَصَدُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ.
وَأَمَّا طَارِقٌ، فَلَمَّا رَأَى طُلَيْطِلَةَ فَارِغَةً ضَمَّ إِلَيْهَا الْيَهُودَ، وَتَرَكَ مَعَهُمْ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَسَارَ هُوَ إِلَى وَادِي الْحِجَارَةِ، فَقَطَعَ الْجَبَلَ مِنْ فَجٍّ فِيهِ، فَسُمِّيَ بِفَجِّ طَارِقٍ إِلَى الْيَوْمِ. وَانْتَهَى إِلَى مَدِينَةٍ خَلْفَ الْجَبَلِ تُسَمَّى مَدِينَةَ الْمَائِدَةِ، وَفِيهَا وَجَدَ مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مِنْ زَبَرْجَدٍ خُضْرٍ، حَافَّاتُهَا وَأَرْجُلُهَا مِنْهَا مُكَلَّلَةٌ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْيَاقُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ رِجْلًا. ثُمَّ مَضَى إِلَى مَدِينَةِ مَايَةَ، فَغَنِمَ مِنْهَا وَرَجَعَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَقِيلَ: اقْتَحَمَ أَرْضَ جِلِّيقِيَّةَ، فَخَرَقَهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَدِينَةِ إِسْتَرْقَةَ، وَانْصَرَفَ إِلَى طُلَيْطِلَةَ، وَوَافَتْهُ جُيُوشُهُ الَّتِي وَجَّهَهَا مِنْ إِسْتِجَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ فَتْحِ تِلْكَ الْمُدُنِ الَّتِي سَيَّرَهُمْ إِلَيْهَا.
وَدَخْلَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ الْأَنْدَلُسَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ مَا صَنَعَ طَارِقٌ فَحَسَدَهُ، فَلَمَّا عَبَرَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ وَنَزَلَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ قِيلَ لَهُ: تَسْلُكُ طَرِيقَ طَارِقٍ، فَأَبَى، فَقَالَ لَهُ الْأَدِلَّاءُ: نَحْنُ نَدُلُّكَ عَلَى طَرِيقٍ أَشْرَفَ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَدَائِنَ لَمْ تُفْتَحْ بَعْدُ، وَوَعَدَهُ يُولْيَانُ بِفَتْحٍ عَظِيمٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ غَمَّهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute