للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ حُلُولُ طَارِقٍ فِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَلَمَّا رَكِبَ طَارِقٌ الْبَحْرَ غَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، فَرَأَى النَّبِيَّ وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَدْ تَقَلَّدُوا السُّيُوفَ وَتَنْكَبُّوا الْقِسِيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا طَارِقُ تَقَدَّمْ لِشَأْنِكَ. وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَنَظَرَ طَارِقٌ فَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا الْأَنْدَلُسَ أَمَامَهُ، فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهُ مُسْتَبْشِرًا، وَبَشَّرَ أَصْحَابَهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَلَمْ يَشُكَّ فِي الظَّفَرِ.

فَلَمَّا تَكَامَلَ أَصْحَابُ طَارِقٍ بِالْجَبَلِ نَزَلَ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَتَحَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ، فَأَصَابَ بِهَا عَجُوزًا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي كَانَ لِي زَوْجٌ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْحَوَادِثِ، وَكَانَ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ أَمِيرٍ يَدْخُلُ بَلَدَهُمْ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَوَصَفَ مِنْ نَعْتِهِ أَنَّهُ ضَخْمُ الْهَامَةِ، وَأَنَّ فِي كَتِفِهِ الْيُسْرَى شَامَةٌ عَلَيْهَا شَعْرٌ، فَكَشَفَ طَارِقٌ ثَوْبَهُ، فَإِذَا الشَّامَةُ كَمَا ذَكَرَتْ، فَاسْتَبْشَرَ طَارِقٌ أَيْضًا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَافْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ الْخَضْرَاءَ وَغَيْرَهَا، وَفَارَقَ الْحِصْنَ الَّذِي فِي الْجَبَلِ.

وَلَمَّا بَلَغَ رُذَرِيقُ غَزْوَ طَارِقٍ بِلَادَهُ عَظُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ غَائِبًا فِي غَزَاتِهِ، فَرَجَعَ مِنْهَا وَطَارِقٌ قَدْ دَخَلَ بِلَادَهُ، فَجَمَعَ لَهُ جَمْعًا يُقَالُ بَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ طَارِقًا الْخَبَرُ كَتَبَ إِلَى مُوسَى يَسْتَمِدُّهُ وَيُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ، وَأَنَّهُ زَحَفَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَمَعَهُمْ يُولْيَانُ يَدُلُّهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْبِلَادِ، وَيَتَجَسَّسُ لَهُمُ الْأَخْبَارَ. فَأَتَاهُمْ رُذَرِيقُ فِي جُنْدِهِ، فَالْتَقَوْا عَلَى نَهْرِ لَكَّةَ مِنْ أَعْمَالِ شَذُونَةَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَاتَّصَلَتِ الْحَرْبُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ وَمَيْسَرَتِهِ وَلَدَا الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْهَزِيمَةِ بُغْضًا لِرُذَرِيقَ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا امْتَلَأَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَبَقِيَ الْمُلْكُ لَنَا. فَانْهَزَمُوا وَهَزَمَ اللَّهُ رُذَرِيقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَغَرِقَ رُذَرِيقُ فِي النَّهْرِ، وَسَارَ طَارِقٌ إِلَى مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ مُتَّبِعًا لَهُمْ، فَلَقِيَهُ أَهْلُهَا وَمَعَهُمْ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الْأَنْدَلُسِ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهَا حَرْبًا مِثْلَهَا. وَنَزَلَ طَارِقٌ عَلَى عَيْنٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدِينَةِ إِسْتِجَةَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ، فَسُمِّيَتْ عَيْنُ طَارِقٍ إِلَى الْآنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>