فَأَقَامَ خَالِدٌ بِدِمَشْقَ حَتَّى هَلَكَ هِشَامٌ وَقَامَ الْوَلِيدُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ: مَا حَالُ الْخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ الَّتِي تَعْلَمُ؟ فَاقْدَمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِبَابِ السُّرَادِقِ فَقَالَ: يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْنَ ابْنُكَ يَزِيدُ؟ فَقَالَ: كَانَ هَرَبَ مِنْ هِشَامٍ وَكُنَّا نَرَاهُ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا لَمْ نَرَهُ ظَنَنَّاهُ بِبِلَادِ قَوْمِهِ مِنَ السَّرَاةِ. وَرَجَعَ الرَّسُولُ وَقَالَ: لَا وَلَكِنَّكَ خَلَّفْتَهُ طَالِبًا لِلْفِتْنَةِ. فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّا أَهْلُ بَيْتِ طَاعَةٍ.
فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَتَأْتِيَنَّ بِهِ أَوْ لَأُرْهِقَنَّ نَفْسَكَ.
فَرَفَعَ خَالِدٌ صَوْتَهُ وَقَالَ: قُلْ لَهُ: هَذَا أَرَدْتُ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمِي مَا رَفَعْتُهَا عَنْهُ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَحَبَسَهُ حَتَّى قَدِمَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْعِرَاقِ بِالْأَمْوَالِ فَاشْتَرَاهُ مِنَ الْوَلِيدِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ إِلَى خَالِدٍ: إِنَّ يُوسُفَ يَشْتَرِيكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَضْمَنُهَا وَإِلَّا دَفَعْتُكَ إِلَيْهِ. فَقَالَ خَالِدٌ: مَا عَهِدْتُ الْعَرَبَ تُبَاعُ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلْتَنِي أَنْ أَضْمَنَ عُودًا مَا ضَمِنْتُهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى يُوسُفَ، فَنَزَعَ ثِيَابَهُ وَأَلْبَسَهُ عَبَاءَةً وَحَمَلَهُ فِي مَحْمَلٍ بِغَيْرٍ وَطَاءٍ وَعَذَّبَهُ عَذَابًا شَدِيدًا، وَهُوَ لَا يُكَلِّمُهُ كَلِمَةً، ثُمَّ حَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ فَعَذَّبَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْمُضَرَّسَةَ عَلَى صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَدَفَنَهُ مِنْ وَقْتِهِ بِالْحِيرَةِ فِي عَبَاءَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ يُوسُفُ فَوُضِعَ عَلَى رِجْلَيْهِ عُودٌ وَقَامَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ قَدَمَاهُ وَمَا تَكَلَّمَ وَلَا عَبَسَ.
وَكَانَتْ أُمُّ خَالِدٍ نَصْرَانِيَّةً رُومِيَّةً، ابْتَنَى بِهَا أَبُوهُ فِي بَعْضِ أَعْيَادِهِمْ فَأَوْلَدَهَا خَالِدًا وَأَسَدًا وَلَمْ تُسْلِمْ، وَبَنَى لَهَا خَالِدٌ بِيعَةً، فَذَمَّهُ النَّاسُ وَالشُّعَرَاءُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مَطِيَّةٍ ... أَتَتْنَا تَهَادَى مِنْ دِمَشْقَ بِخَالِدِ
فَكَيْفَ يَؤُمُّ النَّاسَ مَنْ كَانَتِ امُّهُ ... تَدِينُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِوَاحِدِ
بَنَى بِيعَةً فِيهَا النَّصَارَى لِأُمِّهِ ... وَيَهْدِمُ مِنْ كُفْرٍ مَنَارَ الْمَسَاجِدِ
وَكَانَ خَالِدٌ قَدْ أَمَرَ بِهَدْمِ مَنَارِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ شَاعِرًا قَالَ:
لَيْتَنِي فِي الْمُؤَذِّنِينَ حَيَاتِي ... أَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ مَنْ فِي السُّطُوحِ
فَيُشِيرُونَ أَوْ تُشِيرُ إِلَيْهِمْ ... بِالْهَوَى كُلُّ ذَاتِ دَلٍّ مَلِيحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute