للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الْحَاجِبُ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: مَرْحَبًا [بِكَ] أَبَا خَالِدٍ، انْزِلْ رَاشِدًا! وَقَدْ أَطَافَ بِحُجْرَةِ الْمَنْصُورِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَنَزَلَ، وَدَعَا لَهُ بِوِسَادَةٍ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَأَدْخَلَ الْقُوَّادَ ثُمَّ أَذِنَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ وَحْدَهُ، فَدَخَلَ، وَحَادَثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَ.

ثُمَّ مَكَثَ يَأْتِيهِ يَوْمًا وَيَتْرُكُهُ يَوْمًا، فَكَانَ يَأْتِيهِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَقِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ لَيَأْتِي فَيَتَضَعْضَعُ لَهُ الْعَسْكَرُ وَمَا نَقَصَ مِنْ سُلْطَانِهِ شَيْءٌ. فَأَمَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنْ لَا يَأْتِيَ إِلَّا فِي حَاشِيَتِهِ، فَكَانَ يَأْتِي فِي ثَلَاثِينَ، ثُمَّ صَارَ يَأْتِي فِي ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ.

وَكَلَّمَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْمَنْصُورَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: يَا هَنَاهْ! أَوْ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ! ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ عَهْدِي بِكَلَامِ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا خَاطَبْتُكَ بِهِ لَقَرِيبٌ فَسَبَقَنِي لِسَانِي إِلَى مَا لَمْ أُرِدْهُ. فَأَلَحَّ السَّفَّاحُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ يُرَاجِعُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَيْهِ: وَاللَّهِ لَتَقْتُلَنَّهُ أَوْ لَأُرْسِلَنَّ إِلَيْهِ مَنْ يُخْرِجُهُ مِنْ حُجْرَتِكَ ثُمَّ يَتَوَلَّى قَتْلَهُ.

فَعَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ، فَبَعَثَ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَالْهَيْثَمَ بْنَ ظُهَيْرٍ وَأَمَرَهُمَا بِخَتْمِ بُيُوتِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى وُجُوهِ مَنْ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ الْقَيْسِيَّةِ وَالْمُضَرِيَّةِ فَأَحْضَرَهُمْ، فَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَحَوْثَرَةُ بْنُ سُهَيْلٍ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ نُبَاتَةَ وَحَوْثَرَةُ؟ فَدَخَلَا وَقَدْ أَجْلَسَ أَبُو جَعْفَرٍ عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ وَغَيْرَهُ فِي مِائَةٍ فِي حُجْرَةٍ دُونَ حُجْرَتِهِ، فَنُزِعَتْ سُيُوفُهُمَا وَكُتِّفَا، وَاسْتَدْعَى رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ يَفْعَلُ بِهِمَا مِثْلَ ذَلِكَ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَعْطَيْتُمُونَا عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ غَدَرْتُمْ بِنَا! إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يُدْرِكَكُمُ اللَّهُ! وَجَعَلَ ابْنُ نُبَاتَةَ يَضْرِطُ فِي لِحْيَةِ نَفْسِهِ وَقَالَ: كَأَنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى هَذَا.

وَانْطَلَقَ خَازِمٌ وَالْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةٍ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالُوا: نُرِيدُ حَمْلَ الْمَالِ. فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: دُلَّهُمْ عَلَى الْخَزَائِنِ. فَأَقَامُوا عِنْدَ كُلِّ بَيْتٍ نَفَرًا، وَأَقْبَلُوا نَحْوَهُ وَعِنْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَعِدَّةٌ مِنْ مَوَالِيهِ وَبُنَيٌّ لَهُ صَغِيرٌ فِي حِجْرِهِ.

فَلَمَّا أَقْبَلُوا نَحْوَهُ قَامَ حَاجِبُهُ فِي وُجُوهِهِمْ، فَضَرَبَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَصَرَعَهُ، وَقَاتَلَ ابْنُهُ دَاوُدُ، وَأَقْبَلَ هُوَ إِلَيْهِ وَنَحَّى ابْنَهُ مِنْ حِجْرِهِ، فَقَالَ: دُونَكُمْ هَذَا الصَّبِيَّ، وَخَرَّ سَاجِدًا فَقُتِلَ، وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ.

وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا الْحَكَمَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ، وَخَالِدَ بْنَ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ ذَرٍّ، فَاسْتَأْمَنَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِابْنِ ذَرٍّ، فَآمَنَهُ، وَهَرَبَ الْحَكَمُ، وَآمَنَ أَبُو جَعْفَرٍ خَالِدًا فَقَتَلَهُ السَّفَّاحُ، وَلَمْ يُجِزْ أَمَانَ أَبِي جَعْفَرٍ.

فَقَالَ أَبُو الْعَطَاءِ السِّنْدِيُّ يَرْثِي ابْنَ هُبَيْرَةَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>