إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بِأَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ يَأْتِيهِ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقْرَؤُهُ، ثُمَّ يُلْقِي الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ إِلَى مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، فَيَقْرَؤُهُ وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الرِّسَالَةُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ ضَحِكَ وَقَالَ: نَحْنُ لِأَبِي مُسْلِمٍ أَشَدُّ تُهْمَةً مِنَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، إِلَّا أَنَّا نَرْجُو وَاحِدَةً، نَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَا يُحِبُّونَ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ. وَكَانَ قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا.
فَلَمَّا انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ، وَجَمَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا غَنِمَ مِنْ عَسْكَرِهِ بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ أَبَا الْخَصِيبِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ لِيَكْتُبَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ قَتْلَهُ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَقَالَ: أَنَا أَمِينٌ عَلَى الدِّمَاءِ، خَائِنٌ فِي الْأَمْوَالِ. وَشَتَمَ الْمَنْصُورَ.
فَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ إِلَى الْمَنْصُورِ فَأَخْبَرَهُ، فَخَافَ أَنْ يَمْضِيَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مِصْرَ وَالشَّامَ فَهِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَوَجِّهْ إِلَى مِصْرَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَأَقِمْ بِالشَّامِ فَتَكُونَ بِقُرْبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ أَحَبَّ لِقَاءَكَ أَتَيْتَهُ مِنْ قَرِيبٍ.
فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ غَضِبَ وَقَالَ: يُوَلِّينِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَخُرَاسَانُ لِي! فَكَتَبَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ. وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الْجَزِيرَةِ مُجْمِعًا عَلَى الْخِلَافِ، وَخَرَجَ عَنْ وَجْهِهِ يُرِيدُ خُرَاسَانَ.
فَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ فِي الْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ بِالزَّابِ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَكْرَمَهُ اللَّهُ، عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنَّ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ عَنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ لَكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ يُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَإِنَّا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي.
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكُ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمْ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، فَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِشَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ؟ فَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَ الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ مِنْكَ سَمْعًا وَلَا طَاعَةً، وَحَمَّلَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ أَصْغَيْتَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ عَلَيْكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute