وَقِيلَ: بَلْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحِلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبًا، فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دَلَّى بِغُرُورٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ جَهِلَكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِيَ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وَخَرَجَ أَبُو مُسْلِمٍ مُرَاغَمًا مُشَاقًّا، وَسَارَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَخَذَ أَبُو مُسْلِمٍ طَرِيقَ حُلْوَانَ، فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: اكْتُبُوا إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ وَيَشْكُرُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يُتِمَّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَعَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَيُحَذِّرُونَهُ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ، وَيَأْمُرُونَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَنْصُورِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ الْكِتَابَ مَعَ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ وَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ بِأَلْيَنِ مَا تُكَلِّمُ بِهِ أَحَدًا، مَنِّهِ، وَأَعْلِمْهُ أَنِّي رَافِعُهُ، وَصَانِعٌ بِهِ مَا لَمْ يَصْنَعْهُ بِهِ أَحَدٌ إِنْ هُوَ صَلُحَ وَرَاجَعَ مَا أُحِبُّ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: لَسْتُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَإِنِّي بَرِيءٌ مِنْ مُحَمَّدٍ، إِنْ مَضَيْتَ مُشَاقًّا وَلَمْ تَأْتِنِي إِنْ وَكَّلْتَ أَمْرَكَ إِلَى أَحَدٍ سِوَايَ، وَإِنْ لَمْ أَلِ طَلَبَكَ وَقِتَالَكَ بِنَفْسِي، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ لَخُضْتُهُ، وَلَوِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ لَاقْتَحَمْتُهَا حَتَّى أَقْتُلَكَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا تَقُولَنَّ [لَهُ] هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ رُجُوعِهِ، وَلَا تَطْمَعَ مِنْهُ فِي خَيْرٍ.
فَسَارَ أَبُو حُمَيْدٍ فَقَدِمَ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِحُلْوَانَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يُبَلِّغُونَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَخِلَافَ مَا عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْكَ حَسَدًا وَبَغْيًا، يُرِيدُونَ إِزَالَةَ النِّعْمَةِ وَتَغْيِيرَهَا، فَلَا تُفْسِدْ مَا كَانَ مِنْكَ. وَكَلَّمَهُ وَقَالَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ إِنَّكَ لَمْ تَزَلْ أَمِيرَ آلِ مُحَمَّدٍ يَعْرِفُكَ بِذَلِكَ النَّاسُ، وَمَا ذَخَرَ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاكَ، فَلَا تُحْبِطْ أَجْرَكَ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: مَتَى كُنْتَ تُكَلِّمُنِي بِهَذَا الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى هَذَا الْأَمْرِ، وَإِلَى طَاعَةِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَمَرْتَنَا بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، فَدَعَوْتَنَا مِنْ أَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَمَعَنَا اللَّهُ عَلَى طَاعَتِهِمْ، وَأَلَّفَ مَا بَيْنَ قُلُوبِنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute