وَجَاءَ أَبُو نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَنْصُورِ وَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ بَوَّابٌ. وَنُودِيَ فِي أَهْلِ السُّوقِ فَرَمَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ، وَفُتِحَ بَابُ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ النَّاسُ، فَجَاءَ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى الْحَائِطِ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِ فَكَشَفُوهُ مَرَّتَيْنِ.
فَقَالَ خَازِمٌ لِلْهَيْثَمِ بْنِ شُعْبَةَ: إِذَا كَرُّوا عَلَيْنَا فَاسْتَبِقْهُمْ إِلَى الْحَائِطِ، فَإِذَا رَجَعُوا فَاقْتُلْهُمْ. فَحَمَلُوا عَلَى خَازِمٍ، فَاطَّرَدَ لَهُمْ وَصَارَ الْهَيْثَمُ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقُتِلُوا جَمِيعًا.
وَجَاءَهُمْ يَوْمَئِذٍ عُثْمَانُ بْنُ نَهِيكٍ فَكَلَّمَهُمْ، فَرَمَوْهُ بِسَهْمٍ عِنْدَ رُجُوعِهِ فَوَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَمَرِضَ أَيَّامًا وَمَاتَ مِنْهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَجَعَلَ عَلَى حَرَسِهِ بَعْدَهُ عِيسَى بْنَ نَهِيكٍ، فَكَانَ عَلَى الْحَرَسِ حَتَّى مَاتَ، فَجُعِلَ عَلَى الْحَرَسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ [بِالْكُوفَةِ] .
فَلَمَّا صَلَّى الْمَنْصُورُ الظُّهْرَ دَعَا بِالْعَشَاءِ، وَأَحْضَرَ مَعْنًا وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ، وَقَالَ لِعَمِّهِ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، أَسَمِعْتَ بِأَشَدِّ رَجُلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ الْيَوْمَ مَعْنًا لَعَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْهُمْ.
فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أَتَيْتُكَ وَإِنِّي لَوَجِلُ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا عِنْدَكَ مِنْ الِاسْتِهَانَةِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِمْ رَأَيْتُ مَا لَمْ أَرَهُ مِنْ خُلُقٍ فِي حَرْبٍ، فَشَدَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي وَحَمَلَنِي عَلَى مَا رَأَيْتَ مِنِّي.
وَقِيلَ: كَانَ مَعْنٌ مُتَخَفِّيًا مِنَ الْمَنْصُورِ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ قِتَالِهِ مَعَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ اخْتِفَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي الْخَصِيبِ حَاجِبِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ [لَهُ] الْأَمَانَ، فَلَمَّا خَرَجَتِ الرَّاوِنْدِيَّةُ جَاءَ مَعْنٌ فَوَقَفَ بِالْبَابِ، فَسَأَلَ الْمَنْصُورُ أَبَا الْخَصِيبِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَقَالَ: مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ.
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، شَدِيدُ النَّفْسِ، عَالِمٌ بِالْحَرْبِ، كَرِيمُ الْحَسَبِ، أَدْخِلْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: إِيهٍ يَا مَعْنُ! مَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ تُنَادِيَ فِي النَّاسِ فَتَأْمُرَ لَهُمْ بِالْأَمْوَالِ. فَقَالَ: وَأَيْنَ النَّاسُ وَالْأَمْوَالُ؟ وَمَنْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ لِهَؤُلَاءِ الْعُلُوجِ! لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا يَا مَعْنُ! الرَّأْيُ أَنْ أَخْرُجَ فَأَقِفَ لِلنَّاسِ، فَإِذَا رَأَوْنِي قَاتَلُوا وَتَرَاجَعُوا إِلَيَّ، وَإِنْ أَقَمْتُ تَهَاوَنُوا وَتَخَاذَلُوا.
فَأَخَذَ مَعْنٌ بِيَدِهِ وَقَالَ: لَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذًا، وَاللَّهِ تُقْتَلُ السَّاعَةَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ! فَقَالَ لَهُ أَبُو الْخَصِيبِ مِثْلَهَا، فَجَذَبَ ثَوْبَهُ مِنْهُمَا وَرَكِبَ دَابَّتَهُ، وَخَرَجَ وَمَعْنٌ آخِذٌ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ، وَأَبُو الْخَصِيبِ مَعَ رِكَابِهِ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَتَلَهُ مَعْنٌ حَتَّى قَتَلَ أَرْبَعَةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى أَفْنَوْهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute