للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَالُ عِيسَى إِلَى أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يَكُونُ فِي الْمَجْلِسِ مَعَهُ بَعْضُ وَلَدِهِ فَيَسْمَعُ الْحَفْرَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ، وَيُنْثَرُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَيَنْظُرُ إِلَى الْخَشَبَةِ مِنَ السَّقْفِ قَدْ حُفِرَ عَنْ أَحَدِ طَرَفَيْهَا لِتُقْلَعَ فَيَسْقُطَ التُّرَابُ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ وَثِيَابِهِ فَيَأَمُرُ مَنْ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ بِالتَّحَوُّلِ وَيَقُومُ هُوَ يُصَلِّي ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُ فَيَدْخُلُ بِهَيْئَتِهِ وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ وَثِيَابِهِ لَا يَنْفُضُهُ، فَيَقُولُ لَهُ الْمَنْصُورُ: يَا عِيسَى مَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدٌ بِمِثْلِ هَيْئَتِكَ مِنْ كَثْرَةِ الْغُبَارِ وَالتُّرَابِ! أَفَكُلُّ هَذَا مِنَ الشَّارِعِ؟ فَيَقُولُ: أَحْسَبُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَشْكُو شَيْئًا.

وَكَانَ الْمَنْصُورُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ عَمَّهُ عِيسَى بْنَ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لَا يُؤْثِرُهُ وَيَتَّهِمُهُ. فَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَمَرَ أَنْ يُسْقَى عِيسَى بْنُ مُوسَى بَعْضَ مَا يُتْلِفُهُ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي بَطْنِهِ فَاسْتَأْذَنَ فِي الْعَوْدِ إِلَى بَيْتِهِ بِالْكُوفَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ ثُمَّ عُوفِيَ بَعْدَ أَنْ أَشْفَى.

وَقَالَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ لِلْمَنْصُورِ: إِنَّ ابْنَ مُوسَى إِنَّمَا يَتَرَبَّصُ بِالْخِلَافَةِ لِابْنِهِ مُوسَى فَابْنُهُ الَّذِي يَمْنَعُهُ، فَقَالَ لَهُ: خَوِّفْهُ وَتَهَدَّدْهُ، فَكَلَّمَهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ وَخَوَّفَهُ، فَخَافَ مُوسَى بْنُ عِيسَى.

وَأَتَى الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى مَا يُسَامُ أَبِي مَنْ إِخْرَاجِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ عُنُقِهِ، وَهُوَ يُؤْذَى بِصُنُوفِ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ، فَهُوَ يُهَدَّدُ مَرَّةً، وَيُؤَخَّرُ إِذْنُهُ مَرَّةً، وَيُهْدَمُ عَلَيْهِ الْحِيطَانُ مَرَّةً، وَتُدَسُّ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مَرَّةً، وَأَبِي لَا يُعْطِي عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا.

وَلَكِنَّ هَاهُنَا طَرِيقٌ لَعَلَّهُ يُعْطِي عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَبْخَلُ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنِ الْمَهْدِيِّ لِنَفْسِكَ لِكِبَرِ سِنِّكَ، وَأَنَّهُ لَا تَطُولُ مُدَّتُكَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَبْخَلُ بِهِ لِابْنِكَ، أَفَتُرَانِي أَدَعُ ابْنَكَ يَبْقَى بَعْدَكَ حَتَّى يَلِيَ عَلَى ابْنِي؟ كَلَّا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَأَثِبَنَّ عَلَى ابْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ حَتَّى تَيْأَسَ مِنْهُ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا يُرَادُ مِنْهُ.

فَجَاءَ الْعَبَّاسُ إِلَى الْمَنْصُورِ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ حَاضِرًا، فَقَامَ لِيَبُولَ، فَأَمَرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى ابْنَهُ مُوسَى لِيَقُومَ مَعَهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ: بِأَبِي أَنْتَ وَبِأَبِي أَبٌ وَلَدَكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَكُمَا، وَأَنَّكُمَا لَأَحَقُّ بِهِ، وَلَكِنَّ الْمَرْءَ مُغْرًى بِمَا تَعَجَّلَ.

فَقَالَ مُوسَى [فِي نَفْسِهِ] : امْكَنَنِي هَذَا وَاللَّهِ مِنْ مَقَاتِلِهِ وَهُوَ الَّذِي يُغْرِي بِأَبِي، وَاللَّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>