لَأَقْتُلَنَّهُ! فَلَمَّا رَجَعَا قَالَ مُوسَى لِأَبِيهِ ذَلِكَ سِرًّا، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يَقُولَ لِلْمَنْصُورِ مَا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أُفٍّ لِهَذَا رَأْيًا وَمَذْهَبًا! ائْتَمَنَكَ عَمُّكَ عَلَى مَقَالَةٍ أَرَادَ أَنْ يُسِرَّكَ بِهَا فَجَعَلْتَهَا سَبَبًا لِمَكْرُوهِهِ، وَلَا يَسْمَعَنَّ هَذَا أَحَدٌ، ارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ أَمَرَ الْمَنْصُورُ الرَّبِيعَ فَقَامَ إِلَى مُوسَى فَخَنَقَهُ بِحَمَائِلِهِ، وَمُوسَى يَصِيحُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَمَا يُبَالِي عِيسَى أَنْ تَقْتُلَنِي وَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، وَالْمَنْصُورُ يَقُولُ: يَا رَبِيعُ أَزْهِقْ نَفْسَهُ، وَالرَّبِيعُ يُوهِمُ أَنَّهُ يُرِيدُ تَلَفَهُ وَهُوَ يَرْفُقُ بِهِ وَمُوسَى يَصِيحُ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُوهُ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ مِنْكَ هَذَا كُلَّهُ! فَاكْفُفْ عَنْهُ، فَهَأَنَذَا أُشْهِدُكَ أَنَّ نِسَائِي طَوَالِقُ وَمَمَالِيكِي [أَحْرَارٌ] وَمَا أَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَصْرِفُ ذَلِكَ فِي مَنْ رَأَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ يَدِي بِالْبَيْعَةِ لِلْمَهْدِيِّ. فَبَايَعَهُ لِلْمَهْدِيِّ. ثُمَّ جَعَلَ عِيسَى بْنَ مُوسَى بَعْدَ الْمَهْدِيِّ.
فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: هَذَا الَّذِي كَانَ غَدًا فَصَارَ بَعْدَ غَدٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَنْصُورَ وَضَعَ الْجُنْدَ وَكَانُوا يُسْمِعُونَ عِيسَى بْنَ مُوسَى مَا يَكْرَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، فَنَهَاهُمُ الْمَنْصُورُ عَنْهُ، وَكَانُوا يَكُفُّونَ ثُمَّ يَعُودُونَ.
ثُمَّ إِنَّهُمَا تَكَاتَبَا مُكَاتَبَاتٍ أَغْضَبَتِ الْمَنْصُورَ، وَعَادَ الْجُنْدُ مَعَهُ لِأَشَدَّ مَا كَانُوا، مِنْهُمْ: أَسَدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَعُقْبَةُ بْنُ سَلْمٍ، وَنَصْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَيْرُهُمْ، فَكَانُوا يَمْنَعُونَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَيُسْمِعُونَهُ، فَشَكَاهُمْ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أَنَا وَاللَّهِ أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ وَعَلَى نَفْسِي، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ هَذَا الْفَتَى، فَلَوْ قَدَّمْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ لَكَفُّوا. فَأَجَابَ عِيسَى إِلَى ذَلِكَ.
وَقِيلَ إِنَّ الْمَنْصُورَ اسْتَشَارَ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ فِي ذَلِكَ وَبَعَثَهُ إِلَى عِيسَى، فَأَخَذَ مَعَهُ ثَلَاثِينَ مِنْ كِبَارِ شِيعَةِ الْمَنْصُورِ مِمَّنْ يَخْتَارُهُمْ، وَقَالَ لِعِيسَى فِي أَمْرِ الْبَيْعَةِ، فَامْتَنَعَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَنْصُورِ وَشَهِدُوا عَلَى عِيسَى أَنَّهُ خَلَعَ نَفْسَهُ فَبَايَعَ لِلْمَهْدِيِّ، وَجَاءَ عِيسَى فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ، وَشَكَرَ لِخَالِدٍ صَنِيعَهُ.
وَقِيلَ: بَلِ اشْتَرَى الْمَنْصُورُ مِنْهُ ذَلِكَ بِمَالٍ قَدْرُهُ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ وَلِأَوْلَادِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخَلْعِ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَةِ عِيسَى بْنِ مُوسَى الْكُوفَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعَزَلَهُ الْمَنْصُورُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute