فَأَكْرَمَهُ وَأَظْهَرَ بِرَّهُ، وَتَسَلَّلَتْ إِلَيْهِ الزَّيْدِيَّةُ حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ إِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، فَكَانَ يَرْكَبُ فِيهِمْ وَيَتَصَيَّدُ فِي هَيْئَةِ الْمُلُوكِ وَآلَاتِهِمْ.
فَلَمَّا انْتَهَى [ذَلِكَ] إِلَى الْمَنْصُورِ بَلَغَ مِنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ يُخْبِرُهُ مَا بَلَغَهُ، فَقَرَأَ الْكِتَابَ عَلَى أَهْلِهِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ أَقْرَرْتُ بِالْقِصَّةِ عَزَلَنِي، وَإِنْ صِرْتُ إِلَيْهِ قَتَلَنِي، وَإِنِ امْتَنَعْتُ حَارَبَنِي. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَلْقِ الذَّنْبَ عَلَيَّ وَخُذْنِي وَقَيِّدْنِي، فَإِنَّهُ سَيَكْتُبُ فِي حَمْلِي إِلَيْهِ، فَاحْمِلْنِي فَإِنَّهُ لَا يَقْدَمُ عَلَيَّ لِمَكَانِكَ فِي السِّنْدِ وَحَالِ أَهْلِ بَيْتِكَ بِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَخَافُ عَلَيْكَ خِلَافَ مَا تَظُنُّ. قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَنَفْسِي فِدًا لِنَفْسِكَ.
فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ يَأْمُرُهُ بِحَمْلِهِ، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ ضَرَبَ عُنُقَهُ.
ثُمَّ اسْتَعْمَلَ عَلَى السِّنْدِ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ، وَكَانَ سَبَبُ اسْتِعْمَالِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ تَفَكَّرَ فِيمَنْ يُوَلِّيهِ السِّنْدَ، فَبَيْنَا هُوَ رَاكِبٌ وَالْمَنْصُورُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ غَابَ يَسِيرًا ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَأَدْخَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا انْصَرَفْتُ مِنَ الْمَوْكِبِ لَقِيَتْنِي أُخْتِي فُلَانَةُ، فَرَأَيْتُ مِنْ جِمَالِهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا مَا رَضِيتُهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَطْرَقَ ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ يَأْتِكَ أَمْرِي. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الْمَنْصُورُ لِحَاجِبِهِ الرَّبِيعِ: لَوْلَا قَوْلُ جَرِيرٍ:
لَا تَطْلُبَنَّ خَئُولَةً فِي تَغْلِبٍ ... فَالزِّنْجُ أَكْرَمُ مِنْهُمْ أَخْوَالَا
لَتَزَوَّجْتُ إِلَيْهِ، قُلْ لَهُ: لَوْ كَانَ لَنَا حَاجَةٌ فِي النِّكَاحِ لَقَبِلْتُ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَدْ وَلَّيْتُكَ السِّنْدَ.
فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ ذَلِكَ الْمَلِكَ بِتَسْلِيمِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنْ سَلَّمَهُ وَإِلَّا حَارِبْهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِوِلَايَتِهِ إِفْرِيقِيَّةَ. فَسَارَ هِشَامٌ إِلَى السِّنْدِ فَمَلَكَهَا، وَسَارَ عُمَرُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَوَلِيَهَا.
فَلَمَّا صَارَ هِشَامٌ بِالسِّنْدِ كَرِهَ أَخْذَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْتَرِ، وَأَقْبَلَ يُرِي النَّاسَ أَنَّهُ يُكَاتِبُ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَاتَّصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِالْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ إِلَيْهِ يَسْتَحِثُّهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَتْ خَارِجَةٌ بِبِلَادِ السِّنْدِ، فَوَجَّهَ هِشَامٌ أَخَاهُ سَفَنَّجًا، فَخَرَجَ فِي جَيْشِهِ وَطَرِيقُهُ بِجَنَبَاتِ ذَلِكَ الْمَلِكِ.
فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِذَا غُبْرَةٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ مُقَدِّمَةُ الْعَدُوِّ الَّذِي يَقْصِدُهُ، فَوَجَّهَ طَلَائِعَهُ، فَزَحَفَتْ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيُّ يَتَنَزَّهُ عَلَى شَاطِئِ مِهْرَانَ.
فَمَضَى يُرِيدُهُ، فَقَالَ نُصَحَاؤُهُ: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَرَكَهُ أَخُوكَ