للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ لَانْتَفَيْتُ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِإِطْلَاقِهِ.

قِيلَ: وَكَانَ الْمَهْدِيُّ قَدْ قَالَ لِلْهَادِي يَوْمًا، وَقَدْ قَدِمَ إِلَيْهِ زِنْدِيقٌ، فَقَتَلَهُ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْكَ فَتَجَرَّدْ لِهَذِهِ الْعِصَابَةِ، يَعْنِي أَصْحَابَ مَانِي، فَإِنَّهَا تَدْعُو النَّاسَ إِلَى ظَاهِرٍ حَسَنٍ كَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ.

ثُمَّ تُخْرِجُهَا مِنْ هَذَا إِلَى تَحْرِيمِ اللُّحُومِ، وَمَسِّ الْمَاءِ الطَّهُورِ، وَتَرْكِ قَتْلِ الْهَوَامِّ تَحَرُّجًا، ثُمَّ تُخْرِجُهَا إِلَى عِبَادَةِ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا النُّورُ، وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ، ثُمَّ تُبِيحُ بَعْدَ هَذَا نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالِاغْتِسَالَ بِالْبَوْلِ، وَسَرِقَةَ الْأَطْفَالِ مِنَ الطُّرُقِ، لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ ضَلَالِ الظُّلْمَةِ إِلَى هِدَايَةِ النُّورِ.

فَارْفَعْ فِيهَا الْخَشَبَ، (وَجَرِّدِ السَّيْفَ فِيهَا، وَتَقَرَّبْ بِأَمْرِهَا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ جَدِّيَ الْعَبَّاسَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ، فِي الْمَنَامِ قَلَّدَنِي سَيْفَيْنِ لِقَتْلِ أَصْحَابِ الِاثْنَيْنِ.

فَلَمَّا وَلِيَ الْهَادِي قَالَ: لَأَقْتُلَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ. وَأَمَرَ أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ أَلْفُ جِذْعٍ فَمَاتَ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ بِشَهْرَيْنِ.

قِيلَ: وَكَانَ عِيسَى بْنُ دَأْبٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحِجَازِ أَدَبًا، وَأَعْذَبِهِمْ أَلْفًاظًا، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ عِنْدَ الْهَادِي حَظْوَةً لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ بِمَا يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ.

وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: مَا اسْتَطَلْتُ بِكَ يَوْمًا وَلَا لَيْلًا، وَلَا غِبْتَ عَنْ عَيْنِي إِلَّا تَمَنَّيْتُ أَنْ لَا أَرَى غَيْرَكَ، وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ دَأْبٍ أَرْسَلَ قَهْرَمَانَةً إِلَى الْحَاجِبِ فِي قَبْضِهَا، فَقَالَ الْحَاجِبُ: هَذَا لَيْسَ إِلَيَّ، فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ التَّوْقِيعِ، وَإِلَى الدِّيوَانِ، فَعَادَ إِلَى ابْنِ دَأْبٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: اتْرُكْهَا.

فَبَيْنَمَا الْهَادِي فِي مُسْتَشْرَفٍ لَهُ بِبَغْدَاذَ رَأَى ابْنَ دَأْبٍ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا غُلَامٌ وَاحِدٌ، فَقَالَ لِلْحَرَّانِيِّ: أَلَا تَرَى ابْنَ دَأْبٍ مَا غَيَّرَ حَالَهُ، وَقَدْ وَصَلْنَاهُ لِيُرَى أَثَرُنَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: إِنْ أَمَرْتَنِي عَرَّضْتُ لَهُ بِالْحَالِ. فَقَالَ: لَا، هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ.

وَدَخَلَ ابْنُ دَأْبٍ، وَأَخَذَ فِي حَدِيثِهِ، فَعَرَضَ الْهَادِي بِشَيْءٍ وَقَالَ: أَرَى ثَوْبَكَ غَسِيلًا، وَهَذَا شِتَاءٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجَدِيدِ. فَقَالَ: بَاعِي قَصِيرٌ فَقَالَ: وَكَيْفَ، وَقَدْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ مَا فِيهِ صَلَاحُ شَأْنِكَ؟ فَقَالَ: مَا وَصَلَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَدَعَا صَاحِبَ بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: عَجِّلِ السَّاعَةَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>