فَلَمَّا قَرَأَ الرَّشِيدُ الْكِتَابَ اسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُخَاطِبَهُ، وَتَفَرَّقَ جُلَسَاؤُهُ، فَدَعَا بِدَوَاةٍ وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ هَارُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِقْفُورَ كَلْبِ الرُّومِ، قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ يَابْنَ الْكَافِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَا تَرَاهُ دُونَ مَا تَسْمَعُهُ، وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ سَارَ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى هِرَقْلَةَ فَفَتَحَ وَغَنِمَ وَأَحْرَقَ وَخَرَّبَ، فَسَأَلَهُ نِقْفُورُ الْمُصَالَحَةَ عَلَى خَرَاجٍ يَحْمِلُهُ كُلَّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ وَصَارَ بِالرَّقَّةِ نَقَضَ نِقْفُورُ الْعَهْدَ، وَكَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا، فَأَمِنَ رَجْعَةَ الرَّشِيدِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِنَقْضِهِ مَا جَسَرَ أَحَدٌ عَلَى إِخْبَارِ الرَّشِيدِ، خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَوْدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْبَرْدِ، وَإِشْفَاقًا مِنَ الرَّشِيدِ، فَاحْتِيلَ لَهُ بِشَاعِرٍ مِنْ أَهْلِ جُنْدِهِ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، وَقِيلَ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ أَبْيَاتًا، مِنْهَا:
نَقَضَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ نِقْفُورُ ... فَعَلَيْهِ دَائِرَةُ الْبَوَارِ تَدُورُ
أَبْشِرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ ... فَتْحٌ أَتَاكَ بِهِ الْإِلَهُ كَبِيرُ
فَتْحٌ يَزِيدُ عَلَى الْفُتُوحِ ... يَؤُمُّنَا بِالنَّصْرِ فِيهِ لِوَاؤُكَ الْمَنْصُورُ
فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِهَا.
فَلَمَّا سَمِعَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ قَالَ: أَوَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ نِقْفُورُ؟ وَعَلِمَ أَنَّ الْوُزَرَاءَ قَدِ احْتَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي (أَشَدِّ زَمَانٍ وَأَعْظَمِ كُلْفَةٍ، حَتَّى بَلَغَ بِلَادَهُمْ) ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى شَفَى وَاشْتَفَى وَبَلَغَ مَا أَرَادَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute