للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تِلْكَ الْجِبَالِ، حَتَّى صَارَتْ كَالْحُصُونِ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ [خَنْدَقٍ] عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ وَرَاءَ تِلْكَ الْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ مَسْلَكًا إِلَى الْجِبَالِ مِنْهَا إِلَّا مَسْلَكًا وَاحِدًا، فَفَرَغَ مِنَ الَّذِي أَرَادَ مِنْ حَفْرِ الْخَنَادِقِ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ وَالنَّاسُ يَحْرُسُونَ الْفَعَلَةَ وَالرَّجَّالَةَ لَيْلًا وَنَهَارًا.

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا أَدْخَلَ الرَّجَّالَةَ إِلَيْهَا، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بَابَكُ رَسُولًا وَمَعَهُ قِثَّاءُ، وَبِطِّيخٌ، وَخِيَارٌ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ تَعِبَ وَشَقِيَ مِنْ أَكْلِ الْكَعْكِ، وَأَنَّنَا فِي عَيْشٍ رَغْدٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ مَا أَرَادَ أَخِي، وَأَصْعَدَ الرَّسُولَ، فَأَرَاهُ مَا عَمِلَ، وَأَطَافَ بِهِ خَنَادِقَهُ كُلَّهَا، وَقَالَ: اذْهَبْ فَعَرِّفْهُ مَا رَأَيْتَ.

وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُرَّمِيَّةِ يَأْتُونَ إِلَى قُرْبِ خَنْدَقِ الْأَفْشِينِ، فَيَصِيحُونَ، فَلَمْ يَتْرُكِ الْأَفْشِينُ أَحَدًا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ إِنَّ الْأَفْشِينَ كَمَّنَ لَهُمْ كَمِينًا، فَلَمَّا جَاؤُوا ثَارُوا عَلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا وَلَمْ يَعُودُوا.

وَعَبَّأَ الْأَفْشِينُ أَصْحَابَهُ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمْ بِلُزُومِ مَوْضِعِهِ، وَكَانَ يَرْكَبُ، وَالنَّاسُ فِي مَوَاقِفِهِمْ، فَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ يَضْرِبُ الطُّبُولَ (وَيَسِيرُ زَحْفًا، وَكَانَتْ عَلَامَتُهُ فِي الْمَسِيرِ وَالْوُقُوفِ ضَرْبَ الطُّبُولِ) : لِكَثْرَةِ النَّاسِ، وَمَسِيرِهِمْ فِي الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَإِذَا سَارَ ضَرَبَهَا، وَإِذَا وَقَفَ أَمْسَكَ عَنْ ضَرْبِهَا، فَيَقِفُ النَّاسُ جَمِيعًا، وَيَسِيرُونَ جَمِيعًا.

وَكَانَ يَسِيرُ قَلِيلًا قَلِيلًا كُلَّمَا جَاءَهُ كَوْهَبَانِيٌّ بِخَبَرٍ سَارَ، أَوْ وَقَفَ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ الْوَقْعَةُ عَامَ أَوَّلَ، خَلَّفَ بُخَارَاخَذَاهُ عَلَى رَأْسِ الْعَقَبَةِ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ، يَحْفَظُونَ الطَّرِيقَ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ الْخُرَّمِيَّةُ عَلَيْهِمْ.

وَكَانَ بَابَكُ إِذَا أَحَسَّ بِمَجِيئِهِمْ وَجَّهَ جَمْعًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَيَكْمُنُونَ فِي وَادٍ (تَحْتَ تِلْكَ الْعَقَبَةِ) ، تَحْتَ بُخَارَاخَذَاهُ، وَاجْتَهَدَ الْأَفْشِينُ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَ كَمِينِ بَابَكَ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَبَا سَعِيدٍ (أَنْ يَعْبُرَ الْوَادِيَ فِي كُرْدُوسٍ، وَيَأْمُرُ جَعْفَرًا الْخَيَّاطَ أَنْ يَعْبُرَ فِي كُرْدُوسٍ) ، وَيَأْمُرُ أَحْمَدَ بْنَ الْخَلِيلِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَعْبُرَ فِي كُرْدُوسٍ آخَرَ، فَيَصِيرُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ ثَلَاثَةُ كَرَادِيسَ فِي طَرَفِ أَبْيَاتِهِمْ، وَكَانَ بَابَكُ يُخْرِجُ عَسْكَرَهُ فَيَقِفُ بِإِزَاءِ هَذِهِ الْكَرَادِيسِ، لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَابِ الْبَذِّ، وَكَانَ يُفَرِّقُ عَسَاكِرَهُ كَمِينًا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>