فَجَاءَ رَسُولُ الْأَفْشِينِ لِيَرُدَّ النَّاسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَعْلَامَ الْفَرَاغِنَةَ قَدْ دَخَلَتِ الْبَذَّ، وَصَعِدُوا بِهَا الْقُصُورَ، فَرَكِبَ وَصَاحَ بِالنَّاسِ، فَدَخَلَ، وَدَخَلُوا، وَصَعِدَ النَّاسُ بِالْأَعْلَامِ فَوْقَ قُصُورِ بَابَكَ، وَكَانَ قَدْ كَمَّنَ فِي قُصُورِهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَسِتِّمِائَةِ رَجُلٍ، فَخَرَجُوا عَلَى النَّاسِ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَمَرَّ بَابَكُ، حَتَّى دَخَلَ الْوَادِي الَّذِي يَلِي هَشْتَادْسِرَ، وَاشْتَغَلَ الْأَفْشِينُ وَمِنْ مَعَهُ بِالْحَرْبِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُصُورِ، فَأَحْضَرَ النَّفَّاطِينَ فَأَحْرَقُوهَا، وَهَدَمَ النَّاسُ الْقُصُورَ، فَقَتَلُوا الْخُرَّمِيَّةَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَخَذَ الْأَفْشِينُ أَوْلَادَ بَابَكَ وَعِيَالِهِ، وَبَقِيَ هُنَاكَ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالِانْصِرَافِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْخَنْدَقِ بِرَوْذِ الرَّوْذِ.
وَأَمَّا بَابَكُ فَإِنَّهُ سَارَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ عَادُوا إِلَى الْبَذِّ، بَعْدَ رُجُوعِ الْأَفْشِينِ، فَأَخَذُوا مَا أَمْكَنَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْبَذِّ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ الْقُصُورِ وَإِحْرَاقِهَا، فَفَعَلُوا، فَلَمْ يَدَعْ مِنْهَا بَيْتًا، وَكَتَبَ إِلَى مُلُوكِ أَرْمِينِيَّةَ وَبَطَارِقَتِهِمْ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّ بَابَكَ قَدْ هَرَبَ وَعِدَّةٌ مَعَهُ، وَهُوَ مَارٌّ بِكُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِحِفْظِ نَوَاحِيهِمْ، وَلَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذُوهُ، حَتَّى يَعْرِفُوهُ.
وَجَاءَتْ جَوَاسِيسُ الْأَفْشِينِ إِلَيْهِ فَأَعْلَمُوهُ بِمَوْضِعِ بَابَكَ، وَكَانَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ، طَرَفُهُ بِأَذْرَبِيجَانَ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ بِأَرْمِينِيَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنْ لِلْخَيْلِ نُزُولُهُ، وَلَا يُرَى مَنْ يَسْتَخْفِي فِيهِ لِكَثْرَةِ شَجَرِهِ وَمِيَاهِهِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَادِي غَيْضَةً، فَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِيهِ طَرِيقٌ إِلَى الْوَادِي جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْفَظُونَهُ، وَكَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ جَمَاعَةً.
وَوَرَدَ كِتَابُ الْمُعْتَصِمِ، فِيهِ أَمَانُ بَابَكَ، فَدَعَا الْأَفْشِينُ مَنْ كَانَ اسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ بِالْكِتَابِ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ، فَلَمْ يَجْسُرْ [عَلَى ذَلِكَ] أَحَدٌ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنْهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهَذَا الْأَمَانِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْكَ، فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: اضْمَنْ لَنَا أَنَّكَ تُجْرِي عَلَى عِيَالِنَا، فَضِمْنَ لَهُمَا، فَسَارَا بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَعْلَمَاهُ مَا قَدِمَا لَهُ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَمَرَ الْآخَرَ أَنْ يَعُودَ بِالْكِتَابِ إِلَى الْأَفْشِينِ.
وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُمَا كِتَابًا، فَقَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: قُلْ لِابْنِ الْفَاعِلَةِ: لَوْ كُنْتَ ابْنِي لَلَحِقْتَ بِي، وَلَكِنَّكَ لَسْتَ ابْنِي، وَلَأَنْ تَعِيشَ يَوْمًا وَاحِدًا وَأَنْتَ رَئِيسٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَبْدًا ذَلِيلًا! وَقَعَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الْغَيْضَةِ حَتَّى فَنِيَ زَادُهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الطُّرُقِ، وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ، قَدْ تَنَحَّوْا قَرِيبًا مِنْهُ، وَتَرَكُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute