قَلِيلًا، وَإِلَّا ذَهَبَتِ الْمَدِينَةُ، فَلَمْ يَمُدُّوهُ بِأَحَدٍ، وَقَالُوا: لَا نَمُدُّكَ وَلَا تَمُدُّنَا، فَعَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يَسْأَلُونَهُ الْأَمَانَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَيُسَلِّمُونَ إِلَيْهِ الْحِصْنَ بِمَا فِيهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ وَكَّلَ أَصْحَابَهُ بِجَانِبَيِ الثُّلْمَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُحَارِبُوا، وَقَالَ: أُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَصَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الثُّلْمَةِ، وَقَدْ أَمْسَكَ الرُّومُ عَنِ الْقِتَالِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى السُّورِ، وَالرُّومُ يَقُولُونَ: لَا تَخْشَوْا، وَهُمْ يَتَقَدَّمُونَ، وَ " وَنْدُوا " جَالِسٌ عِنْدَ الْمُعْتَصِمِ، فَأَرْكَبَهُ فَرَسًا، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ حَتَّى صَارُوا فِي الثُّلْمَةِ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيٍّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ يُومِئُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ، فَالْتَفَتَ " وَنْدُوا " وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ أَسْمَعُ كَلَامَكَ، فَغَدَرْتَ بِي، قَالَ الْمُعْتَصِمُ: كُلُّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَهُوَ لَكَ، وَلَسْتُ أُخَالِفُكَ، قَالَ: إِيشِ تُخَالِفُنِي، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ الْمَدِينَةَ.
وَصَارَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الرُّومِ إِلَى كَنِيسَةٍ كَبِيرَةٍ لَهُمْ، فَأَحْرَقَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَهَلَكُوا كُلُّهُمْ، وَكَانَ نَاطِسُ فِي بُرْجِهِ، حَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ، وَوَقَفَ مُقَابِلَ نَاطِسَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا نَاطِسُ! هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَهَرَ مِنَ الْبُرْجِ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ، فَنَحَّاهُ عَنْهُ، وَنَزَلَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَهُ سَوْطًا، وَسَارَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى مَضْرِبِهِ، وَقَالَ: هَاتُوه! فَمَشَى قَلِيلًا، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِحَمْلِهِ، وَأَخَذَ السَّيْفَ الرُّومُ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ بِالْأَسْرَى وَالسَّبْيِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ أَنْ يُعْزَلَ مِنْهُمْ أَهْلُ الشَّرَفِ، وَنَقَلَ مَنْ سِوَاهُمْ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْمَغَانِمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَبِيعَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَرَ بِالْبَاقِي فَأُحْرِقَ.
وَكَانَ لَا يُنَادِي عَلَى شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْوَاتٍ، ثُمَّ يُوجِبُ بَيْعَهُ، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ، وَكَانَ يُنَادِي عَلَى الرَّقِيقِ خَمْسَةً خَمْسَةً [وَ] عَشَرَةً عَشَرَةً، طَلَبًا لِلسُّرْعَةِ.
وَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بَيْعُ الْمَغَانِمِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عُجَيْفٌ وَعَدَ النَّاسَ أَنْ يَثُورَ فِيهِ بِالْمُعْتَصِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَثَبَ النَّاسُ عَلَى الْمَغَانِمِ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ، وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ، وَسَارَ رَكْضًا نَحْوَهُمْ، فَتَنَحَّوْا عَنْهَا، وَكَفُّوا عَنِ النَّهْبِ، فَرَجَعَ إِلَى مَضْرِبِهِ، وَأَمَرَ بِعَمُّورِيَّةَ فَهُدِمَتْ وَأُحْرِقَتْ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَفَرَّقَ الْأَسْرَى عَلَى الْقُوَّادِ، وَسَارَ نَحْوَ طَرَسُوسَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute