وَسَكَنَ النَّاسُ، وَلَمْ يُطْلِقِ الْعَبَّاسُ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَاعَدَهُمْ وَكَرِهُوا قَتْلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْعَبَّاسِ.
وَكَانَ الْفَرْغَانِيُّ قَدْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَهُ قَرَابَةُ غُلَامٍ أَمَرَدَ فِي خَاصَّةِ الْمُعْتَصِمَ، فَجَاءَ الْغُلَامُ إِلَى وَلَدِ عُمَرَ الْفَرْغَانِيِّ، وَشَرِبَ عِنْدَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ رُكُوبِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسُلَّ سَيْفَهُ وَيَضْرِبَ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ، فَسَمِعَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنَ الْغُلَامِ، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُصَابَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! أَقْلِلْ مِنَ الْمُقَامِ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْزَمْ خَيْمَتَكَ، وَإِنْ سَمِعْتَ صَيْحَةً وَشَغَبًا فَلَا تَبْرَحْ، فَإِنَّكَ غُلَامٌ غَرٌّ، وَلَا تَعْرِفُ الْعَسَاكِرَ، فَعَرِفَ مَقَالَةَ عُمَرَ.
وَارْتَحَلَ الْمُعْتَصِمُ إِلَى الثُّغُورِ، وَوَجَّهَ الْأَفْشِينُ ابْنَ الْأَقْطَعِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَيُوَافِيَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَمَضَى وَأَغَارَ، وَعَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ وَمَعَهُ الْغَنَائِمُ، فَنَزَلَ بِعَسْكَرِ الْأَفْشِينِ، وَكَانَ كُلُّ عَسْكَرٍ عَلَى حِدَةٍ، فَتَوَجَّهَ عُمَرُ الْفَرْغَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ مِنْ عَسْكَرِ أَشْنَاسَ إِلَى عَسْكَرِ الْأَفْشِينِ لِيَشْتَرِيَا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا، فَلَقِيَهُمَا الْأَفْشِينُ فَتَرَجَّلَا، وَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَتَوَجَّهَا إِلَى الْغَنِيمَةِ، فَرَآهُمَا صَاحِبُ أَشْنَاسَ، فَأَعْلَمَهُ بِهِمَا، فَأَرْسَلَ أَشْنَاسُ إِلَيْهِمَا بَعْضَ أَصْحَابِهِ; لِيَنْظُرَ مَا يَصْنَعَانِ، فَجَاءَ فَرَآهُمَا وَهُمَا يَنْتَظِرَانِ بَيْعَ السَّبْيِ، فَرَجَعَ، فَأَخْبَرَ أَشْنَاسَ الْخَبَرَ، فَقَالَ أَشْنَاسُ لِحَاجِبِهِ: قُلْ لَهُمَا يَلْزَمَا الْعَسْكَرَ، وَهُوَ خَيْرٌ لَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا، فَاغْتَمَّا لِذَلِكَ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَذْهَبَا إِلَى صَاحِبِ خَبَرِ الْعَسْكَرِ، فَيَسْتَعْفِيَاهُ مِنْ أَشْنَاسَ، فَأَتَيَاهُ وَقَالَا: نَحْنُ عَبِيدُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَضُمَّنَا إِلَى مَنْ تَشَاءُ، فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَسْتَخِفُّ بِنَا، قَدْ شَتَمَنَا، وَتَوَعَّدَنَا، وَنَحْنُ نَخَافُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْنَا، فَلْيَضُمَّنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ أَرَادَ.
فَأَنْهَى ذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، وَاتَّفَقَ عَلَى الرَّحِيل ِ، وَسَارَ أَشْنَاسُ وَالْأَفْشِينُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ، فَقَالَ لِأَشْنَاسَ: أَحْسِنْ أَدَبَ عُمَرَ وَأَحْمَدَ، فَإِنَّهُمَا قَدْ حَمَّقَا أَنْفُسَهُمَا! فَجَاءَ أَشْنَاسُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَخَذَهُمَا، وَحَبَسَهُمَا، وَحَمَلَهُمَا عَلَى بَغْلٍ، حَتَّى صَارَ بِالصَّفْصَافِ، فَجَاءَ ذَلِكَ الْغُلَامُ، وَحَكَى لِلْمُعْتَصِمِ مَا سَمِعَ مِنْ عُمَرَ الْفَرَغَانِيِّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَنْفَذَ الْمُعْتَصِمُ بُغَا، وَأَخَذَ عُمَرَ مِنْ عِنْدِ أَشْنَاسَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي قَالَهُ لِلْغُلَامِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ سَكْرَانَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا قُلْتُ، فَدَفَعَهُ إِلَى إِيتَاخَ، وَسَارَ الْمُعْتَصِمُ، فَأَنْفَذَ أَحْمَدَ بْنَ الْخَلِيلِ إِلَى أَشْنَاسَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: لَا أُخْبِرُ بِهَا إِلَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَلَفَ أَشْنَاسُ: إِنْ هُوَ لَمْ يُخْبِرْنِي بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ لَأَضْرِبَنَّهُ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute