وَلَقِيَ بَعْضُ الْمُنْهَزِمِينَ عَلَّانَ بْنَ كُشْمُرْدَ، فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَلَوْ رَأَوْكَ لَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِيهِمْ! فَقَالَ: لَا أُعَرِّضُ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ لِلْقَتْلِ، وَرَجَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
وَكَتَبَ مَنْ نَجَا مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ هَذِهِ الْقَافِلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْقَافِلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْحُجَّاجِ يُعْلِمُونَهُمْ مَا جَرَى مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّحَذُّرِ، وَالْعُدُولِ عَنِ الْجَادَّةِ نَحْوَ وَاسِطَ وَالْبَصْرَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى فَيْدَ وَالْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ تَأْتِيَهُمْ جُيُوشُ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا، وَلَمْ يُقِيمُوا.
وَسَارَتِ الْقَرَامِطَةُ مِنَ الْعَقَبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الْحَاجِّ، وَقَدْ طَمَّوُا الْآبَارَ وَالْبِرَكَ بِالْجِيَفِ، وَالتُّرَابِ، بِوَاقِصَةَ، وَالثَّعْلَبِيَّةِ، وَالْعَقَبَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَاهِلِ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِمْ.
وَأَقَامَ [زَكْرَوَيْهِ] بِالْهَبِيرِ يَنْتَظِرُ الْقَافِلَةَ الثَّالِثَةَ، فَسَارُوا فَصَادَفُوهُ هُنَاكَ، فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُمْ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَاسْتَسْلَمُوا لِشِدَّةِ الْعَطَشِ، فَوَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ وَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَجَمَعَ الْقَتْلَى كَالتَّلِّ، وَأَرْسَلَ خَلْفَ الْمُنْهَزِمِينَ مَنْ يَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمَانَ، فَلَمَّا رَجَعُوا قَتَلَهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَتْلَى مُبَارَكٌ الْقُمِّيُّ، وَوَلَدُهُ أَبُو الْعَشَائِرِ بْنُ حَمْدَانَ.
وَكَانَ نِسَاءُ الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بِالْمَاءِ بَيْنَ الْقَتْلَى يَعْرِضْنَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ، فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ قَتَلْنَهُ، فَقِيلَ إِنَّ عِدَّةَ الْقَتْلَى بَلَغَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا مَنْ كَانَ بَيْنَ الْقَتْلَى فَلَمْ يُفْطَنْ لَهُ فَنَجَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَنْ هَرَبَ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْقَرَامِطَةِ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، فَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّنْ سَلِمَ وَمَنِ اسْتَعْبَدُوهُ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذُوهُ مِنْ هَذِهِ الْقَافِلَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذُوا فِيهَا أَمْوَالُ الطُّولُونِيَّةِ وَأَسْبَابُهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مِصْرَ إِلَى بَغْدَاذَ خَافُوا أَنْ يَسْتَصْحِبُوهَا فَتُؤْخَذَ مِنْهُمْ، فَعَمِلُوا الذَّهَبَ وَالنَّقْرَةَ سَبَائِكَ، وَجَعَلُوهَا فِي حَدَائِجِ الْجِمَالِ، وَجَمِيعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْجَوْهَرِ، وَسَيَّرُوا الْجَمِيعَ إِلَى مَكَّةَ سِرًّا، وَسَارَ مِنْ مَكَّةَ فِي هَذِهِ الْقَافِلَةِ فَأُخِذَتْ.
وَبَثَّ زَكْرَوَيْهِ الطَّلَائِعَ خَوْفًا مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي كَانَ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ مَنْ كَانَ فِي الْحَجِّ مِنْ عَسْكَرِ الْخَلِيفَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانُوا بِفَيْدَ يَنْتَظِرُونَ هَلْ تَعْرِضُ الْقَرَامِطَةُ لِلْحَاجِّ أَمْ لَا، فَكَانَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا صَنَعَ الْقَرَامِطَةُ أَقَامُوا يَنْتَظِرُونَ وُصُولَ عَسْكَرٍ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَسَارَ زَكْرَوَيْهِ إِلَيْهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute