فَأَجَابَهُ الْمُقْتَدِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَاسْتَعْطَفَهُمْ، وَذَكَّرَهُمْ بَيْعَتَهُ فِي أَعْنَاقِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَخَوَّفَهُمْ عَاقِبَةَ النَّكْثِ، وَأَمَرَ هَارُونَ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَاذَ، وَأَقْطَعَهُ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ وَالْجُزُرِيَّةَ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَاذَ تَاسِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، (وَرَاسَلَهُمُ الْمُقْتَدِرُ) ، وَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ كُفْرَ إِحْسَانِهِ، وَالسَّعْيَ فِي الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ.
فَلَمَّا أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ دَخَلَ مُؤْنِسٌ وَابْنُ حَمْدَانَ وَنَازُوكُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِأَنَّ مُؤْنِسًا وَمَنْ مَعَهُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ خَرَجَ مُؤْنِسٌ وَالْجَيْشُ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ، فَتَشَاوَرُوا سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ بِأَسْرِهِمْ، فَلَمَّا (زَحَفُوا إِلَيْهَا) ، وَقَرُبُوا مِنْهَا، هَرَبَ الْمُظَفَّرُ بْنُ يَاقُوتٍ، وَسَائِرُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ وَغَيْرُهُمْ، وَالْفَرَّاشُونَ، وَكُلُّ مَنْ فِي الدَّارِ، وَكَانَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ حَاضِرًا، فَهَرَبَ وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ وَالْجَيْشُ دَارَ الْخَلِيفَةِ، وَأَخْرَجَ الْمُقْتَدِرَ، وَوَالِدَتَهُ، وَخَالَتَهُ، وَخَوَاصَّ جَوَارِيهِ، وَأَوْلَادَهُ، مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَحُمِلُوا إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، فَاعْتُقِلُوا بِهَا.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ هَارُونَ بْنَ غَرِيبٍ، وَهُوَ بِقُطْرُبُّلَ، فَدَخَلَ بَغْدَاذَ وَاسْتَتَرَ، وَمَضَى ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، فَأَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ، وَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَأَحْضَرُوا الْقَاضِيَ أَبَا عُمَرَ عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالْخَلْعِ، وَعِنْدَهُ مُؤْنِسٌ، وَنَازُوكُ، وَابْنُ حَمْدَانَ، وَبُنِّيُّ بْنُ نَفِيسٍ، فَقَالَ مُؤْنِسٌ لِلْمُقْتَدِرِ لِيَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْقَاضِيَ بِالْخَلْعِ، فَقَامَ ابْنُ حَمْدَانَ، وَقَالَ لِلْمُقْتَدِرِ: يَا سَيِّدِي يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْكَ، وَأَحْذَرُهَا، وَأَنْصَحُ لَكَ، وَأُحَذِّرُكَ عَاقِبَةَ الْقَبُولِ مِنَ الْخَدَمِ، وَالنِّسَاءِ، فَتُؤْثِرُ أَقْوَالَهُمْ عَلَى قَوْلِي، وَكَأَنِّي كُنْتُ أَرَى هَذَا، وَبَعْدُ فَنَحْنُ عَبِيدُكَ وَخَدَمُكَ.
وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَعَيْنَا الْمُقْتَدِرِ، وَشَهِدَ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِالْخَلْعِ، وَأَوْدَعُوا الْكِتَابَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute