أَمْسِ مِنْ مَرْدَاوِيجَ، فَأَخَافُ أَنْ يُسْلِمُونِي وَيَنْهَزِمُوا عَنِّي، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الْوَزِيرَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْهُ وَمِنْ وَالِدَتِهِ لِيُرْضِي الْجُنْدَ، وَمَتَى سَمِعَ أَصْحَابُ مُؤْنِسٍ بِتَفْرِيقِ الْأَمْوَالِ تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَاضْطُرَّ إِلَى الْهَرَبِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ لِي وَلَا لِوَالِدَتِي جِهَةُ شَيْءٍ.
وَأَرَادَ الْمُقْتَدِرُ أَنْ يَنْحَدِرَ إِلَى وَاسِطَ، وَيُكَاتِبَ الْعَسَاكِرَ مِنْ جِهَةِ الْبَصْرَةِ، وَالْأَهْوَازِ، وَفَارِسَ، وَكَرْمَانَ، وَغَيْرِهَا، وَيَتْرُكَ بَغْدَاذَ لِمُؤْنِسٍ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ، وَيَعُودَ إِلَى قِتَالِهِ، فَرَدَّهُ ابْنُ يَاقُوتٍ عَنْ ذَلِكَ، وَزَيَّنَ لَهُ اللِّقَاءَ، وَقَوَّى نَفْسَهُ بِأَنَّ الْقَوْمَ مَتَى رَأَوْهُ عَادُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ وَهُوَ كَارِهٌ.
(ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِحُضُورِ الْحَرْبِ، فَخَرَجَ وَهُوَ كَارِهٌ) ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْقُرَّاءُ مَعَهُمُ الْمَصَاحِفُ مَشْهُورَةٌ، وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ عَنِ الْمَعْرَكَةِ، فَأَرْسَلَ قُوَّادُ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ التَّقَدُّمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، (وَهُوَ وَاقِفٌ) ، فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ تَقَدَّمَ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ فَنُودِيَ: مَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ فَلَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ لَقِيَهُ عَلِيُّ بْنُ بُلَيْقٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُؤْنِسٍ، فَتَرَجَّلَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَمْضِي؟ ارْجِعْ، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْحُضُورِ! فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْبَرْبَرِ، فَتَرَكَهُ عَلِيٌّ مَعَهُمْ وَسَارَ عَنْهُ، فَشَهَرُوا عَلَيْهِ سُيُوفَهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ أَنَا الْخَلِيفَةُ! فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سِفْلَةُ، أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تَبْذُلُ فِي كُلِّ رَأْسٍ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَفِي كُلِّ أَسِيرٍ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ! وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَذَبَحَهُ بَعْضُهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّ عَلِيَّ بْنَ بُلَيْقٍ غَمَزَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُ.
وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ ثَقِيلَ الْبَدَنِ، عَظِيمَ الْجُثَّةِ، فَلَمَّا قَتَلُوهُ رَفَعُوا رَأْسَهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَهُمْ يَكْبِّرُونَ وَيَلْعَنُونَهُ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وَتَرَكُوهُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، إِلَى أَنْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَكَرَةِ، فَسَتَرَهُ بِحَشِيشٍ، ثُمَّ حَفَرَ لَهُ مَوْضِعَهُ، وَدُفِنَ، وَعُفِيَ قَبْرُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute