قَالَ أَبُو زَكَرِيَّاءَ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ مَا فِي نَفْسِ بُجْكُمَ، فَأَنْفَذْتُ إِلَيْهِ أَقُولُ: عِنْدِي نَصِيحَةٌ، فَأَحْضَرَنِي عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ بِمَمْلَكَةِ الدُّنْيَا، وَخِدْمَةِ الْخِلَافَةِ، وَتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ، كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَقِلَ قَوْمًا مَنْكُوبِينَ قَدْ سُلِبُوا نِعْمَتَهُمْ، وَتُطَالِبُهُمْ بِمَالٍ وَهُمْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، وَتَأْمُرُ بِتَعْذِيبِهِمْ حِينَ جُعِلَ أَمْسُ طَشْتٌ فِيهِ نَارٌ عَلَى بَطْنَ بَعْضِهِمْ؟ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا إِذَا سُمِعَ عَنْكَ اسْتَوْحَشَ مِنْكَ النَّاسُ، وَعَادَاكَ مَنْ لَا يَعْرِفُكَ؟ وَقَدْ أَنْكَرْتَ عَلَى ابْنِ رَائِقٍ إِيحَاشَهُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، أَتَرَاهُ أَسَاءَ إِلَى جَمِيعِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ، بَلْ أَسَاءَ إِلَى بَعْضِهِمْ، فَأَبْغَضُوهُ كُلُّهُمْ، وَعَوَامُّ بَغْدَاذَ لَا تَحْتَمِلُ أَمْثَالَ هَذَا، وَذَكَرْتُ لَهُ فِعْلَ مَرْدَاوَيْجَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْ صَدَقْتَنِي، وَنَصَحْتَنِي، ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ.
وَلَمَّا اسْتَوْلَى ابْنُ بُوَيْهِ وَالْبَرِيدِيُّ عَلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ، سَارَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ يُهَنُّونَهُ، وَفِيهِمْ طَبِيبٌ حَاذِقٌ، وَكَانَ الْبَرِيدِيُّ يُحَمُّ بِحُمَّى الرِّبْعِ، فَقَالَ لِذَلِكَ الطَّبِيبِ: أَمَا تَرَى يَا أَبَا زَكَرِيَّاءَ حَالِي وَهَذِهِ الْحُمَّى؟ فَقَالَ لَهُ: خَلْطٌ، يَعْنِي فِي الْمَأْكُولِ، فَقَالَ لَهُ: أَكْثَرُ مِنْ هَذَا التَّخْلِيطِ، قَدْ رَهِجَتِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَقَامُوا بِهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ هَرَبَ الْبَرِيدِيُّ مِنِ ابْنِ بُوَيْهِ إِلَى الْبَاسِيَّانِ، فَكَاتَبَهُ بِعَتَبٍ كَثِيرٍ، وَيَذْكُرُ غَدْرَهُ فِي هَرَبِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ هَرَبِهِ أَنَّ ابْنَ بُوَيْهِ طَلَبَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِالْبَصْرَةِ لِيَسِيرُوا إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِأَصْبَهَانَ، مَعُونَةً لَهُ عَلَى حَرْبِ وَشْمَكِيرَ، فَأَحْضَرَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرُوا، قَالَ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ: إِنْ أَقَامُوا، وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّيْلَمِ فِتْنَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى السُّوسِ ثُمَّ يَسِيرُوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِأَنْ يُحْضِرَ عَسْكَرَهُ الَّذِينَ بِحِصْنِ مَهْدِيٍّ لِيُسَيِّرَهُمْ فِي الْمَاءِ إِلَى وَاسِطَ، فَخَافَ الْبَرِيدِيُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ مِثْلُ مَا عَمِلَ هُوَ بِيَاقُوتٍ.
وَكَانَ الدَّيْلَمُ يُهِينُونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَهَرَبَ وَأَمَرَ جَيْشَهُ الَّذِي بِالسُّوسِ، فَسَارُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَاتَبَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ بِالْإِفْرَاجِ لَهُ عَنِ الْأَهْوَازِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْأَهْوَازَ وَالْبَصْرَةَ مِنْ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، كُلَّ سَنَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute