للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ: لَمَّا مَاتَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَلَغَ خَبَرُهُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ، فَتَذَاكَرُوا الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَالَهَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهَا فِي أَخْبَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ قُلْتُمْ أَنْتُمْ مِثْلَهَا لَكَانَ ذَلِكَ يُؤْثَرُ عَنْكُمْ.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ: لَقَدْ وَزَنَ هَذَا الشَّخْصُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مِثْقَالِهَا، وَأَعْطَاهَا فَوْقَ قِيمَتِهَا، وَطَلَبَ الرِّبْحَ فِيهَا فَخَسِرَ رُوحَهُ فِيهَا.

وَقَالَ الثَّانِي: مَنِ اسْتَيْقَظَ لِلدُّنْيَا فَهَذَا نَوْمُهُ، وَمَنْ حَلَمَ فِيهَا فَهَذَا انْتِبَاهُهُ.

وَقَالَ الثَّالِثُ: مَا رَأَيْتُ عَاقِلًا فِي عَقْلِهِ، وَلَا غَافِلًا فِي غَفْلَتِهِ مِثْلَهُ، لَقَدْ كَانَ يَنْقُضُ جَانِبًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُبْرَمٌ، وَيَغْرَمُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ غَانِمٌ.

وَقَالَ الرَّابِعُ: مَنْ جَدَّ لِلدُّنْيَا هَزَلَتْ بِهِ، وَمَنْ هَزَلَ رَاغِبًا عَنْهَا جَدَّتْ لَهُ.

وَقَالَ الْخَامِسُ: تَرَكَ هَذَا الدُّنْيَا شَاغِرَةً، وَرَحَلَ عَنْهَا بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ.

وَقَالَ السَّادِسُ: إِنَّ مَاءً أَطْفَأَ هَذِهِ النَّارَ لَعَظِيمٌ، وَإِنَّ رِيحًا زَعْزَعَتْ هَذَا الرُّكْنَ لَعَصُوفٌ.

وَقَالَ السَّابِعُ: إِنَّمَا سَلَبَكَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْكَ.

وَقَالَ الثَّامِنُ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبِرًا فِي حَيَاتِهِ لَمَا صَارَ عِبْرَةً فِي مَمَاتِهِ.

وَقَالَ التَّاسِعُ: الصَّاعِدُ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا إِلَى اسْتِفَالٍ، وَالنَّازِلُ فِي دَرَجَاتِهَا إِلَى تَعَالٍ.

وَقَالَ الْعَاشِرُ: كَيْفَ غَفَلْتَ عَنْ كَيْدِ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى نَفَذَ فِيكَ، وَهَلَّا اتَّخَذْتَ دُونَهُ جُنَّةً تَقِيكَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لِعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ، وَإِنَّكَ لَآيَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ.

وَبَنَى عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، سُورًا. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ لَمَّاَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ يَعْتَذِرُ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ بَخْتِيَارَ، وَيَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَقَالَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ:

أَأَفَاقَ حِينَ وَطِئْتُ ضَيْقَ خِنَاقِهِ

،

يَبْغِي الْأَمَانَ وَكَانَ يَبْغِي صَارِمًا ... فَلْأَرْكَبَنَّ عَزِيمَةً عَضُدِيَّةً

،

تَاجِيَّةً، تَدَعُ الْأُنُوفَ رَوَاغِمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>