وَثَارَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ بِالدَّيْلَمِ وَالْأَتْرَاكِ، فَنَهَبُوهُمْ، وَخَرَجُوا إِلَى بَنِي حَمْدَانَ، وَخَرَجَ الدَّيْلَمُ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَهَزَمَهُمُ الْمَوَاصِلَةُ وَبَنُو حَمْدَانَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاعْتَصَمَ الْبَاقُونَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ، وَعَزَمَ أَهْلُ الْمَوْصِلِ عَلَى قَتْلِهِمْ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْهُمْ، فَمَنَعَهُمْ بَنُو حَمْدَانَ عَنْ ذَلِكَ، وَسَيَّرُوا خُوَاشَاذَهْ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَقَامُوا بِالْمَوْصِلِ، وَكَثُرَ الْعَرَبُ عِنْدَهُمْ.
ذِكْرُ خِلَافِ كُتَامَةَ عَلَى الْمَنْصُورِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ إِنْسَانٌ آخَرُ مِنْ كُتَامَةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ، لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ هُوَ، وَزَعَمَ أَنَّ أَبَاهُ وَلَدُ الْقَائِمِ الْعَلَوِيِّ، جَدِّ الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ، فَعَمِلَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلَهُ أَبُو الْفَهْمِ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ كُتَامَةُ، وَاتَّخَذَ الْبُنُودَ وَالطُّبُولَ، وَضَرَبَ السِّكَّةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَائِبِ الْمَنْصُورِ وَعَسَاكِرِهِ بِمَدِينَةِ مِيلَةَ وَسَطِيفَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَوَقَعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَسَارَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ فِي عَسَاكِرِهِ، وَزَحَفَ هُوَ إِلَى الْمَنْصُورِ فِي عَسَاكِرِ كُتَامَةَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، فَانْهَزَمَ أَبُو الْفَرَجِ وَكُتَامَةُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَاخْتَفَى أَبُو الْفَرَجِ فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ غُلَامَانِ كَانَا لَهُ فَأَخَذَاهُ وَأَتَيَا بِهِ الْمَنْصُورَ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ وَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ.
وَشَحَنَ الْمَنْصُورُ بِلَادَ كُتَامَةَ بِالْعَسَاكِرِ، وَبَثَّ عُمَّالَهُ فِيهَا، وَلَمْ يَدْخُلْهَا عَامِلٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَبَوْا أَمْوَالَهَا وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا.
وَرَجَعَ الْمَنْصُورُ إِلَى مَدِينَةِ أَشِيرَ، فَأَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ خَزَرُونَ الزَّنَاتِيُّ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى سِجِلْمَاسَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَارَ فِي طَاعَةِ الْمَنْصُورِ، وَاخْتَصَّ بِهِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ يَوْمًا: يَا سَعِيدُ هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا أَكْرَمَ مِنِّي؟ وَكَانَ قَدْ وَصَلَهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ! أَنَا أَكْرَمُ مِنْكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ جُدْتَ عَلَيَّ بِالْمَالِ، وَأَنَا جُدْتُ عَلَيْكَ بِنَفْسِي. فَاسْتَعْمَلَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى طُبْنَةَ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ بِبَعْضِ بَنَاتِ سَعِيدٍ. فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِهِ، فَقَالَ: كَانَ أَبِي وَجَدِّي يَسْتَتْبِعَانِهِمْ بِالسَّيْفِ، [وَأَمَّا] أَنَا فَمَنْ رَمَانِي بِرُمْحِ رَمَيْتُهُ بِكِيسٍ، حَتَّى تَكُونَ مَوَدَّتُهُمْ طَبْعًا وَاخْتِيَارًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute