وَجَهَّزَ الْحَاكِمُ عَسْكَرًا آخَرَ، أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَعَبَرُوا إِلَى الْجِيزَةِ، فَسَمِعَ أَبُو رَكْوَةَ بِهِمْ، فَسَارَ مُجِدًّا فِي عَسْكَرِهِ لِيُوَافِقَهُمْ عِنْدَ مِصْرَ، وَضَبَطَ الطُّرُقَ لِئَلَّا يَسْمَعَ الْفَضْلُ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَاضِي يُكَاتِبُهُ، فَسَارُوا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّرِيقِ يُعَرِّفُهُ الْخَبَرَ، وَقَطَعَ أَبُو رَكْوَةَ مَسِيرَةَ خَمْسِ لَيَالٍ فِي لَيْلَتَيْنِ، وَكَبَسُوا عَسْكَرَ الْحَاكِمِ بِالْجِيزَةِ، وَقَتَلُوا نَحْوَ أَلْفِ فَارِسٍ، وَخَافَ أَهْلُ مِصْرَ، وَلَمْ يَبْرُزِ الْحَاكِمُ مِنْ قَصْرِهِ، وَأَمَرَ الْحَاكِمُ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ بِالْعُبُورِ إِلَى الْجِيزَةِ، وَرَجَعَ أَبُو رَكْوَةَ فَنَزَلَ عِنْدَ الْهَرَمَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ يَوْمِهِ، وَكَتَبَ الْحَاكِمُ إِلَى الْفَضْلِ كِتَابًا ظَاهِرًا يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ أَبَا رَكْوَةَ انْهَزَمَ مِنْ عَسَاكِرِنَا، لِيَقْرَأَهُ عَلَى الْقُوَّادِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ سِرًّا يُعْلِمُهُ الْحَالَ. فَأَظْهَرَ الْفَضْلُ الْبِشَارَةَ بِانْهِزَامِ أَبِي رَكْوَةَ تَسْكِينًا لِلنَّاسِ.
ثُمَّ سَارَ أَبُو رَكْوَةَ إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالسَّبَخَةِ، كَثِيرِ الْأَشْجَارِ، وَتَبِعَهُ الْفَضْلُ، وَكَمَنَ أَبُو رَكْوَةَ بَيْنَ الْأَشْجَارِ، وَطَارَدَ عَسْكَرَ الْفَضْلِ، وَرَجَعَ عَسْكَرُهُ الْقَهْقَرَى لِيَسْتَجِرُّوا عَسْكَرَ الْفَضْلِ وَيَخْرُجَ الْكَمِينُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الْكُمَنَاءُ رُجُوعَ عَسْكَرِ أَبِي رَكْوَةَ ظَنُّوهَا الْهَزِيمَةَ لَا شَكَّ فِيهَا، فَوَلَّوْا يَتْبَعُونَهُمْ، وَرَكِبَهُمْ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَعَلَوْهُمْ بِالسُّيُوفِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَانْهَزَمَ أَبُو رَكْوَةَ وَمَعَهُ بَنُو قُرَّةَ وَسَارُوا إِلَى حُلَلِهِمْ، فَلَمَّا بَلَغُوهَا ثَبَّطَهُمُ الْمَاضِي عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ: قَدْ قَاتَلْنَا مَعَكَ، وَلَمْ يَبْقَ فِينَا قِتَالٌ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَانْجُ; فَسَارَ إِلَى بَلَدِ النُّوبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى حِصْنٍ يُعْرَفُ بِحِصْنِ الْجَبَلِ لِلنُّوبَةِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ الْحَاكِمِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْحِصْنِ: الْمَلِكُ عَلِيلٌ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِخْرَاجِ أَمْرِهِ فِي مَسِيرِكَ إِلَيْهِ.
وَبَلَغَ الْفَضْلَ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الْقَلْعَةِ بِالْخَبَرِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ بِالْحَالِ، وَكَانَ مَلِكُ النُّوبَةِ قَدْ تُوُفِّيَ وَمَلَكَ وَلَدُهُ فَأَمَرَ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى نَائِبِ الْحَاكِمِ، فَتَسَلَّمَهُ رَسُولُ الْفَضْلِ وَسَارَ بِهِ، فَلَقِيَهُ الْفَضْلُ وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ فِي مَضَارِبِهِ، وَحَمَلَهُ إِلَى مِصْرَ فَأُشْهِرَ بِهَا، وَطِيفَ بِهِ.
وَكَتَبَ أَبُو رَكْوَةَ إِلَى الْحَاكِمِ رُقْعَةً يَقُولُ فِيهَا: يَا مَوْلَانَا الذُّنُوبُ عَظِيمَةٌ، وَأَعْظَمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute