تَمْوِيهَاتِ ابْنِ عَبَّادٍ وَحِيَلِهِ وَمَكْرِهِ، وَأَعْجَبُ مِنِ اخْتِفَاءِ حَالِ الْمُؤَيَّدِ، ثُمَّ تَصْدِيقِ النَّاسِ ابْنَ عَبَّادٍ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَيَاتِهِ، أَنَّ إِنْسَانًا حَضَرِيًّا ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُؤَيَّدِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَادَّعَى أَنَّهُ (الْمُؤَيَّدُ، فَبُويِعَ) بِالْخِلَافَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ جَمِيعِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَسُفِكَتِ الدِّمَاءُ بِسَبَبِهِ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ فِي أَمْرِهِ.
وَلَمَّا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّادٍ مَوْتَ هِشَامٍ الْمُؤَيَّدِ، وَاسْتَقَلَّ بِأَمْرِ إِشْبِيلِيَّةَ وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا، بَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ (مِنْ ذُبَحَةٍ لَحِقَتْهُ) لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ابْنِ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، فَاتَّسَعَ مُلْكُهُ، وَشَمَخَ سُلْطَانُهُ، وَمَلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْدَلُسِ، وَمَلَكَ قُرْطُبَةَ أَيْضًا، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ الظَّافِرَ بِاللَّهِ، فَبَلَغَ خَبَرُ مُلْكِهِ لَهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ ذِي النُّونِ، صَاحِبِ طُلَيْطِلَةَ، فَحَسَدَهُ عَلَيْهَا، فَضَمِنَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عُكَّاشٍ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَهَا لَهُ، وَسَارَ إِلَى قُرْطُبَةَ، وَأَقَامَ بِهَا يَسْعَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَمَعَهُ رِيحٌ شَدِيدٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَثَارَ جَرِيرٌ فِيمَنْ مَعَهُ، وَوَصَلَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمَانِعُهُ، فَدَخَلَ صَاحِبُ الْبَابِ إِلَى الظَّافِرِ وَأَعْلَمَهُ، فَخَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْحَرَسِ، وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، وَدَفَعَهُمْ عَنِ الْبَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَثَرَ فِي بَعْضِ كَرَّاتِهِ فَسَقَطَ، فَوَثَبَ بَعْضُ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَبَرُ إِلَى الْأَجْنَادِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ إِلَّا وَالْقَصْرُ قَدْ مُلِكَ، وَتَلَاحَقَ بِجَرِيرٍ أَصْحَابُهُ وَأَشْيَاعُهُ، وَتُرِكَ الظَّافِرُ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ عُرْيَانًا، فَمَرَّ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ قُرْطُبَةَ، فَأَبْصَرَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَنَزَعَ رِدَاءَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ إِذَا ذَكَرَهُ يَتَمَثَّلُ:
وَلَمْ أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِدَاءَهُ ... عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ
وَلَمْ يَزَلِ الْمُعْتَمِدُ يَسْعَى فِي أَخْذِهَا، حَتَّى عَادَ مَلَكَهَا، وَتَرَكَ وَلَدَهُ الْمَأْمُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute