الْبَسُوسِ ".
فَخَرَجَ كُلَيْبٌ يَوْمًا يَتَعَهَّدُ الْإِبِلَ وَمَرَاعِيَهَا فَأَتَاهَا وَتَرَدَّدَ فِيهَا، وَكَانَتْ إِبِلُهُ وَإِبِلُ جَسَّاسٍ مُخْتَلِطَةً، فَنَظَرَ كُلَيْبٌ إِلَى سَرَابٍ فَأَنْكَرَهَا، فَقَالَ لَهُ جَسَّاسٌ، وَهُوَ مَعَهُ: هَذِهِ نَاقَةُ جَارِنَا الْجَرْمِيِّ. فَقَالَ: لَا تَعُدْ هَذِهِ النَّاقَةُ إِلَى هَذَا الْحِمَى. فَقَالَ جَسَّاسٌ: لَا تَرْعَى إِبِلِي مَرْعًى إِلَّا وَهَذِهِ مَعَهَا، فَقَالَ كُلَيْبٌ: لَئِنْ عَادَتْ لَأَضَعَنَّ سَهْمِي فِي ضَرْعِهَا، فَقَالَ جَسَّاسٌ: لَئِنْ وَضَعْتَ سَهْمَكَ فِي ضَرْعِهَا لَأَضَعَنَّ سِنَانَ رُمْحِي فِي لَبَّتِكَ! ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَقَالَ كُلَيْبٌ لِامْرَأَتِهِ: أَتَرَيْنَ أَنَّ فِي الْعَرَبِ رَجُلًا مَانِعًا مِنِّي جَارَهُ؟ قَالَتْ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا جَسَّاسًا، فَحَدَّثَهَا الْحَدِيثَ. وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى الْحِمَى مَنَعَتْهُ وَنَاشَدَتْهُ اللَّهَ أَنْ لَا يَقْطَعَ رَحِمَهُ، وَكَانَتْ تَنْهَى أَخَاهَا جَسَّاسًا أَنْ يُسَرِّحَ إِبِلَهُ.
ثُمَّ إِنَّ كُلَيْبًا خَرَجَ إِلَى الْحِمَى، وَجَعَلَ يَتَصَفَّحُ الْإِبِلَ، فَرَأَى نَاقَةَ الْجَرْمِيِّ فَرَمَى ضَرْعَهَا فَأَنْفَذَهُ، فَوَلَّتْ وَلَهَا عَجِيجٌ حَتَّى بَرَكَتْ بِفَنَاءِ صَاحِبِهَا. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهَا صَرَخَ بِالذُّلِّ، وَسَمِعَتِ الْبَسُوسُ صُرَاخَ جَارِهَا، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِنَاقَتِهِ وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ صَاحَتْ: وَاذُلَّاهُ! وَجَسَّاسٌ يَرَاهَا وَيَسْمَعُ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: اسْكُتِي وَلَا تُرَاعِي، وَسَكَّنَ الْجَرْمِيَّ، وَقَالَ لَهُمَا: إِنِّي سَأَقْتُلُ جَمَلًا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ، سَأَقْتُلُ غِلَالًا، وَكَانَ غِلَالٌ فَحْلُ إِبِلِ كُلَيْبٍ لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ جَسَّاسٌ بِمَقَالَتِهِ كُلَيْبًا.
وَكَانَ لِكُلَيْبٍ عَيْنٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَى كُلَيْبٍ، فَقَالَ: لَقَدِ اقْتَصَرَ مِنْ يَمِينِهِ عَلَى غِلَالٍ. وَلَمْ يَزَلْ جَسَّاسٌ يَطْلُبُ غِرَّةَ كُلَيْبٍ، فَخَرَجَ كُلَيْبٌ يَوْمًا آمِنًا، فَلَمَّا بَعُدَ عَنِ الْبُيُوتِ رَكِبَ جَسَّاسٌ فَرَسَهُ وَأَخَذَ رُمْحَهُ وَأَدْرَكَ كُلَيْبًا، فَوَقَفَ كُلَيْبٌ. فَقَالَ لَهُ جَسَّاسٌ: يَا كُلَيْبُ الرُّمْحُ وَرَاءَكَ! فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ مِنْ أَمَامِي، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَأَرْدَاهُ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَالَ: يَا جَسَّاسُ أَغِثْنِي بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَلَمْ يَأْتِهِ بِشَيْءٍ، وَقَضَى كُلَيْبٌ نَحْبَهُ. فَأَمَرَ جَسَّاسٌ رَجُلًا كَانَ مَعَهُ اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ فَجَعَلَ عَلَيْهِ أَحْجَارًا لِئَلَّا تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مُهَلْهِلُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَخُو كُلَيْبٍ:
قَتِيلٌ مَا قَتِيلُ الْمَرْءِ عَمْرٌو ... وَجَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ ذِي صَرِيمِ
أَصَابَ فُؤَادَهُ بِأَصَمَّ لَدْنٍ ... فَلَمْ يَعْطِفْ هُنَاكَ عَلَى حَمِيمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute