ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الدَّفْعِ عَنِ الْبَلَدِ، وَكُلَّمَا جَاءَ أَمْرُهُ يَضْعُفُ، قَوَّى عَزْمَهُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ وَقَصْدِ جِهَةٍ أُخْرَى، يَجْمَعُ فِيهَا الْعَسَاكِرَ، وَيَعُودُ يَدْفَعُ الْخَصْمَ عَنِ الْحِصَارِ، فَسَارَ عَنِ الْبَلَدِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ يَنَّالُ، وَاسْتَخْلَفَ بِالْبَلَدِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ فِي بَاقِي الْعَسْكَرِ، فَلَمَّا فَارَقَ الْعَسْكَرَ وَالْبَلَدَ لَمْ يَكُنْ فِي دَوَابِّهِمْ مَا يَدُومُ عَلَى السَّيْرِ لِقِلَّةِ الْعَلَفِ فِي الْحِصَارِ، فَنَزَلَ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بَرْكِيَارُقُ بِمَسِيرِهِ سَيَّرَ وَرَاءَهُ الْأَمِيرَ إِيَازَ فِي عَسْكَرٍ كَثِيرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْجِدِّ فِي السَّيْرِ فِي طَلَبِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا سَبَقَهُمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، فَرَجَعُوا، وَقِيلَ: بَلْ أَدْرَكُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ يَقُولُ: أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّنِي لِي فِي رَقَبَتِكَ عُهُودٌ وَأَيْمَانٌ مَا نُقِضَتْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنِّي إِلَيْكَ مَا تُبَالِغُ فِي أَذَايَ. فَعَادَ عَنْهُ، وَأَرْسَلَ لَهُ خَيْلًا، وَأَخَذَ عَلَمَهُ، والْجَتَرَ، وَثَلَاثَةَ أَحْمَالٍ دَنَانِيرَ، وَعَادَ إِلَى بَرْكِيَارُقَ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَامُ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ مَنْكُوسَةً، فَأَنْكَرَ بَرْكِيَارُقُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ أَسَاءَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ مَعَهُ هَذَا، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَلَمَّا فَارَقَ مُحَمَّدٌ أَصْبَهَانَ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَالسَّوَادِيَّةِ، وَمَنْ يُرِيدُ النَّهْبَ، مَا يَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ نَفْسٍ، وَزَحَفُوا إِلَى الْبَلَدِ بِالسَّلَالِيمِ، وَالدَّبَّابَاتِ، وَطَمُّوا الْخَنْدَقَ بِالتِّبْنِ، وَالْتَصَقُوا بِالسُّورِ، وَصَعِدَ النَّاسُ فِي السَّلَالِيمِ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِيَ حَرِيمَهُ وَمَالَهُ، فَعَادُوا خَائِبِينَ، فَحِينَئِذٍ أَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى بَرْكِيَارُقَ بِالرَّحِيلِ، فَرَحَلَ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَلَدِ الْقَدِيمِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ شَهْرِسْتَانُ، تَرْشُكَ الصَّوَابِيَّ فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَعَ ابْنِهِ مَلِكْشَاهْ، وَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا سُطِرَ أَنَّ سُلْطَانًا مَحْصُورًا قَدْ تَقَطَّعَتْ مَوَادُّهُ، وَهُوَ يُخْطَبُ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، ثُمَّ يَخْلُصُ مِنَ الْحَصْرِ الشَّدِيدِ، وَيَنْجُو مِنَ الْعَسَاكِرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كُلُّهَا قَدْ شَرَعَ إِلَيْهِ وَفَوَّقَ إِلَيْهِ سَهْمَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute