يَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ يَسْجُنُهُ فِي جُبٍّ، وَيُوَكِّلُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ لِئَلَّا يُسْرَقَ، فَأُخْرِجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَيِّتًا، وَعَمْرُهُ نَحْوَ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ شَأْنُهُ قَدْ عَلَا، وَمَنْزِلَتُهُ قَدْ عَظُمَتْ، وَكَانَ قَدْ شَيَّدَ سُورَ الْمَوْصِلِ وَقَوَّاهُ، وَبَنَى عَلَيْهَا فَصِيلًا، وَحَفَرَ خَنْدَقَهَا، وَحَصَّنَهَا غَايَةَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مَعَ جَكَرْمِشَ رَجُلٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ كُسَيْرَاتٍ، وَبَنُو كُسَيْرَاتٍ إِلَى الْآنِ بِالْمَوْصِلِ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ جَكَرْمِشَ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، وَحَضَرَ مَعَهُ الْحَرْبَ، فَلَمَّا أُسِرَ جَكَرْمِشُ هَرَبَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى إِرْبَلَ، وَكَانَ أَوْلَادُ أَبِي الْهَيْجَاءِ، صَاحِبِ إِرْبَلَ، قَدْ حَضَرُوا الْحَرْبَ مَعَ جَكَرْمِشَ، وَأَسَرَهُمْ جَاوْلِي، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي الْهَيْجَاءِ يَطْلُبُ ابْنَ كُسَيْرَاتٍ، فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهِ، فَأَطْلَقَ جَاوْلِي ابْنَ أَبِي الْهَيْجَاءِ، فَلَمَّا حَضَرَ ابْنُ كُسَيْرَاتٍ عِنْدَ جَاوْلِي ضَمِنَ لَهُ فَتْحَ الْمَوْصِلِ وَبِلَادِ جَكَرْمِشَ، وَتَحْصِيلَ الْأَمْوَالِ، فَاعْتَقَلَهُ اعْتِقَالًا جَمِيلًا.
وَكَانَ قَاضِي الْمَوْصِلِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ وَدْعَانَ عَدُوًّا لِأَبِي طَالِبٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَاوْلِي يَقُولُ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ أَبَا طَالِبٍ سَلَّمْتُ الْمَوْصِلَ إِلَيْكَ، فَقَتَلَهُ وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ الشَّمَاتَةَ بِهِ، وَأَخَذَ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِ وَوَدَائِعِهِ، فَثَارَ بِهِ الْأَتْرَاكُ غَضَبًا لِأَبِي طَالِبٍ وَلِتَفَرُّدِهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ رَأَيْنَا كَثِيرًا، وَسَمِعْنَا مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْ قُرْبِ وَفَاةِ أَحَدِ الْمُتَعَادِيَيْنِ بَعْدَ صَاحِبِهِ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنَ مَلِكِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ والْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَحْشَةٌ مُسْتَحْكِمَةٌ بَيْنَ مَلِكِ الرُّومِ، صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَبَيْنَ بِيمُنْدَ الْفِرِنْجيِّ، فَسَارَ بِيمُنْدُ إِلَى بَلَدِ مَلِكِ الرُّومِ وَنَهَبَهُ، وَعَزَمَ عَلَى قَصْدِهِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْمَلِكِ قِلْجِ أَرْسِلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، صَاحِبِ قُونِيَةَ وَأَقْصَرَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَمَدَّهُ بِجَمْعٍ مِنْ عَسْكَرِهِ، فَقَوِيَ بِهِمْ، وَتَوَجَّهَ إِلَى بِيمُنْدَ، فَالْتَقَوْا وَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا، وَصَبَرَ الْفِرِنْجُ بِشَجَاعَتِهِمْ، وَصَبَرَ الرُّومُ وَمَنْ مَعَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَامَتِ الْحَرْبُ، ثُمَّ أَجْلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ هَزِيمَةِ الْفِرِنْجِ، وَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَأُسِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَالَّذِينَ سَلِمُوا عَادُوا إِلَى بِلَادِهِمْ بِالشَّامِ، وَعَادَ عَسْكَرُ قِلْجِ أَرْسِلَانَ إِلَى بِلَادِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute