وَأَمَّا سَبَبُ قَتْلِهِ فَإِنَّ صَدَقَةَ كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا، يَسْتَجِيرُ بِهِ كُلُّ خَائِفٍ مِنْ خَلِيفَةٍ وَسُلْطَانٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ قَدْ سَخِطَ عَلَى أَبِي دُلَفَ سُرْخَابَ بْنِ كَيْخَسْرُو، صَاحِبِ سَاوَةَ وَآبَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَقَصَدَ صَدَقَةَ فَاسْتَجَارَ بِهِ، فَأَجَارَهُ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ يَطْلُبُ مِنْ صَدَقَةَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَى نُوَّابِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَجَابَ: إِنَّنِي لَا أُمَكِّنُ مِنْهُ بَلْ أُحَامِي عَنْهُ، وَأَقُولُ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ لِقُرَيْشٍ لَمَّا طَلَبُوا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَنُسْلِمَهُ، حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَظَهَرَ مِنْهُ أُمُورٌ أَنْكَرَهَا السُّلْطَانُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَتَلَافَى هَذَا الْأَمْرَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَدَقَةُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الَّذِي يَفْعَلُهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْنُهُ دُبَيْسٌ بِأَنْ يُنْفِذَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ، وَالْخَيْلُ، وَالتُّحَفُ، لِيَسْتَعْطِفَ لَهُ السُّلْطَانَ، وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِ صَدَقَةَ، بِالْمُحَارَبَةِ، وَجَمْعِ الْجُنْدِ، وَتَفْرِيقِ الْمَالِ فِيهِمْ، وَاسْتَطَالَ فِي الْقَوْلِ، فَمَالَ صَدَقَةُ إِلَى قَوْلِهِ، وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ يُحَذِّرُهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَيَعْرِضُ لَهُ تَوَسُّطَ الْحَالِ، فَأَجَابَ صَدَقَةُ: إِنَّنِي عَلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ، لَكِنْ لَا آمَنُ عَلَى نَفْسِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَكَانَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ عَنِ الْخَلِيفَةِ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ عَلِيَّ بْنَ طَرَّادٍ الزَّيْنَبِيَّ.
ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبَا سَعِيدٍ الْهَرَوِيَّ إِلَى صَدَقَةَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَيُزِيلُ خَوْفَهُ، وَيَأْمُرُهُ بِالِانْبِسَاطِ عَلَى عَادَتِهِ، وَيُعَرِّفُهُ عَزْمَهُ عَلَى قَصْدِ الْفِرِنْجِ، وَيَأْمُرُهُ بِالتَّجَهُّزِ لِلْغُزَاةِ مَعَهُ، فَأَجَابَ: إِنَّ السُّلْطَانَ قَدْ أَفْسَدَ أَصْحَابُهُ قَلْبَهُ عَلَيَّ، وَغَيَّرُوا حَالِي مَعَهُ، وَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الْإِنْعَامِ، وَذَكَرَ سَالِفَ خِدْمَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، صَاحِبُ جَيْشِهِ: لَمْ يَبْقَ لَنَا فِي صُلْحِ السُّلْطَانِ مَطْمَعٌ، وَلَتَرَوُنَّ خُيُولَنَا بِحُلْوَانَ، وَامْتَنَعَ صَدَقَةُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِالسُّلْطَانِ.
وَوَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى بَغْدَاذَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الْمُلْكِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَسَيَّرَ الْبُرْسُقِيَّ، شِحْنَةَ بَغْدَاذَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى صَرْصَرَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute