وَكَانَ وُصُولُ السُّلْطَانِ، جَرِيدَةً، لَا يَبْلُغُ عَسْكَرُهُ أَلْفَيْ فَارِسٍ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ بِبَغْدَاذَ مُكَاشَفَةَ صَدَقَةَ، أَرْسَلَ إِلَى الْأُمَرَاءِ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ، وَتَعْجِيلِ ذَلِكَ، فَوَرَدُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
ثُمَّ وَصَلَ كِتَابُ صَدَقَةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَذْكُرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ مَا يَرْسُمُ لَهُ وَيُقَرِّرُ مِنْ حَالِهِ مَعَ السُّلْطَانِ، وَمَهْمَا أَمَرْتَهُ مِنْ ذَلِكَ امْتَثَلَهُ، فَأَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ الْكِتَابَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: أَنَا مُمْتَثِلٌ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَلَا مُخَالَفَةَ عِنْدِي، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى صَدَقَةَ يُعَرِّفُهُ إِجَابَةَ السُّلْطَانِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ، وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ ثِقَتِهِ لِيَسْتَوْثِقَ لَهُ، وَيَحْلِفَ السُّلْطَانُ عَلَى مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ. فَعَادَ (صَدَقَةُ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَقَالَ: إِذَا رَحَلَ السُّلْطَانُ عَنْ بَغْدَاذَ) أَمْدَدْتُهُ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ، وَأَمَّا الْآنَ وَهُوَ بِبَغْدَاذَ، وَعَسْكَرُهُ بِنَهْرِ الْمَلِكِ، فَمَا عِنْدِي مَالٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّ جَاوْلِي سَقَّاوُو، وَإِيلْغَازِي بْنَ أُرْتُقَ، قَدْ أَرْسَلَا إِلَيَّ بِالطَّاعَةِ لِي وَالْمُوَافَقَةِ مَعِي عَلَى مُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَمَتَى أَرَدْتُهُمَا وَصَلَا إِلَيَّ (فِي عَسَاكِرِهِمَا.
وَوَرَدَ إِلَى) السُّلْطَانِ قِرْوَاشُ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَكَرْمَاوِي بْنُ خُرَاسَانَ التُّرْكُمَانِيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ فَضْلُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، وَآبَاؤُهُ كَانُوا أَصْحَابَ الْبَلْقَاءِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ الْمُفَرِّجِ الَّذِي مَدَحَهُ التِّهَامِيُّ، وَكَانَ فَضْلٌ تَارَةً مَعَ الْفِرِنْجِ، وَتَارَةً مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، فَلَمَّا رَآهُ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ طَرَدَهُ مِنَ الشَّامِ، فَلَمَّا طَرَدَهُ الْتَجَأَ إِلَى صَدَقَةَ وَعَاقَدَهُ، فَأَكْرَمَهُ صَدَقَةُ، وَأَهْدَى لَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً مِنْهَا سَبْعَةُ آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا.
فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ بَيْنَ صَدَقَةَ وَالسُّلْطَانِ سَارَ فِي الطَّلَائِعِ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ خَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ صَدَقَةَ بِبَغْدَاذَ، فَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى قِتَالِ صَدَقَةَ اسْتَأْذَنَهُ فَضْلٌ فِي إِتْيَانِ الْبَرِّيَّةِ لِيَمْنَعَ صَدَقَةَ مِنَ الْهَرَبِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَعَبَرَ بِالْأَنْبَارِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَأَنْفَذَ السُّلْطَانُ فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى وَاسِطَ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ بُوقَا التُّرْكُمَانِيَّ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا نَائِبَ صَدَقَةَ، وَأَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، إِلَّا أَصْحَابَ صَدَقَةَ، فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يُنْهَبْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute