فَسَمِعَهَا قَيْسٌ فَرَكِبَ هُوَ وَأَهْلُهُ وَقَصَدُوا الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ وَهُوَ يُصْلِحُ سِلَاحَهُ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ قَيْسٌ وَقَامَ الرَّبِيعُ فَاعْتَنَقَا وَبَكَيَا، وَأَظْهَرَا الْجَزَعَ لِمُصَابِ مَالِكٍ، وَلَقِيَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَنَزَلُوا. فَقَالَ قَيْسٌ لِلرَّبِيعِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْرُبْ مِنْكَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْكَ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ عَنْكَ مَنِ اسْتَعَانَ بِكَ، وَقَدْ كَانَ لَكَ شَرُّ يَوْمَيَّ فَلْيَكُنْ لِي خَيْرُ يَوْمَيْكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِقَوْمِي وَقَوْمِي بِكَ، وَقَدْ أَصَابَ الْقَوْمُ مَالِكًا، وَلَسْتُ أَهِمُّ بِسُوءٍ لِأَنِّي إِنْ حَارَبْتُ بَنِي بَدْرٍ نَصَرَتْهُمْ بَنُو ذُبْيَانَ، وَإِنْ حَارَبَتْنِي خَذَلَنِي بَنُو عَبْسٍ إِلَّا أَنَّ تَجَمُّعَهُمْ عَلَيَّ، وَأَنَا وَالْقَوْمُ فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ، قَتَلْتُ ابْنَهُمْ وَقَتَلُوا أَخِي، فَإِنْ نَصَرْتَنِي طَمِعْتُ فِيهِمْ، وَإِنْ خَذَلْتَنِي طَمِعُوا فِيَّ. فَقَالَ الرَّبِيعُ: يَا قَيْسُ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُنِي أَنْ أَرَى لَكَ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا أَرَاهُ لِي، وَلَا يَنْفَعُكَ أَنْ تَرَى لِي مَا لَا أَرَاهُ لَكَ، وَقَدْ مَالَ عَلَيَّ مَالِكٌ وَأَنْتَ ظَالِمٌ وَمَظْلُومٌ، ظَلَمُوكَ فِي جَوَادِكَ وَظَلَمْتَهُمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَقَتَلُوا أَخَاكَ بِابْنِهِمْ، فَإِنْ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ فَعَسَى أَنْ تَلْقَحَ الْحَرْبُ أُقِمْ مَعَكَ، وَأَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ مُسَالَمَتُهُمْ وَنَخْلُو بِحَرْبِ هَوَازِنَ. وَبَعَثَ قَيْسٌ إِلَى أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءُوا وَنَزَلُوا مَعَ الرَّبِيعِ، وَأَنْشَدَهُمْ عَنْتَرَةُ بْنُ شَدَّادٍ مَرْثِيَّتَهُ فِي مَالِكٍ:
فَلِلَّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مَالِكٍ ... عَقِيرَةَ قَوْمٍ أَنْ جَرَى فَرَسَانِ
فَلَيْتَهُمَا لَمْ يَطْعَمَا الدَّهْرَ بَعْدَهَا ... وَلَيْتَهُمَا لَمْ يُجْمَعَا لِرِهَانِ
وَلَيْتَهُمَا مَاتَا جَمِيعًا بِبَلْدَةٍ ... وَأَخْطَاهُمَا قَيْسٌ فَلَا يُرَيَانِ
لَقَدْ جَلَبَا جَلْبًا لِمَصْرَعِ مَالِكٍ ... وَكَانَ كَرِيمًا مَاجِدًا لِهِجَانِ
وَكَانَ إِذَا مَا كَانَ يَوْمُ كَرِيهَةٍ ... فَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي وَهُوَ فَتَيَانِ
وَكُنَّا لَدَى الْهَيْجَاءِ نَحْمِي نِسَاءَنَا ... وَنَضْرِبُ عِنْدَ الْكَرْبِ كُلَّ بَنَانِ
فَسَوْفَ تَرَى إِنْ كُنْتُ بَعْدَكَ بَاقِيًا ... وَأَمْكَنَنِي دَهْرِي وَطُولُ زَمَانِي
فَأُقْسِمُ حَقًّا لَوْ بَقِيتَ لِنَظْرَةٍ ... لَقَرَّتْ بِهَا عَيْنَاكَ حِينَ تَرَانِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute