صَارَ أَكْبَرَ أَمِيرٍ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَانْقَادَتِ الْعَسَاكِرُ لَهُ، فَحَسَدَهُ الْأُمَرَاءُ، وَأَفْسَدُوا حَالَهُ مَعَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَحَسَّنُوا لَهُ قَتْلَهُ، فَعَلِمَ، فَهَرَبَ إِلَى قَلْعَةِ بَرْجِينَ، وَهِيَ بَيْنَ بُرُوجِرْدَ وَكَرَجَ، وَكَانَ بِهَا أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَسَارَ مِنْهَا فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ إِلَى خُوزِسْتَانَ، وَكَانَتْ بِيَدِ أَقَبُورِي بْنِ بُرْسُقَ، وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ: أَرْغِلِي بْنِ يَلْبَكِي، وَهِنْدُو بْنِ زِنْكِيٍّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَخَذَ عُهُودَهُمْ بِأَمَانِهِ وَحِمَايَتِهِ.
فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهِمْ أَرْسَلُوا عَسْكَرًا مَنَعُوهُ مِنْ قَصْدِهِمْ، فَلَقُوهُ عَلَى سِتَّةِ فَرَاسِخَ مِنْ تَسْتُرَ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَوَقَفَ بِهِ فَرَسُهُ، فَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ، فَتَشَبَّثَ ذَيْلُهُ بِسَرْجِهِ الْأَوَّلِ، فَأَزَالَهُ، فَعَاوَدَ التَّعَلُّقَ، فَأَبْطَأَ، فَأَدْرَكُوهُ وَأَسَرُوهُ، وَكَاتَبُوا السُّلْطَانَ مَحْمُودًا فِي أَمْرِهِ فَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْمُرَابِطِينَ وَأَهْلِ قُرْطُبَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ وَبَيْنَ أَهْلِ قُرْطُبَةَ.
وَسَبَبَهَا: أَنَّ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا أَبَا بَكْرٍ يَحْيَى بْنَ رَوَّادٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَضْحَى خَرَجَ النَّاسُ مُتَفَرِّجِينَ، فَمَدَّ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ أَبِي بَكْرٍ يَدَهُ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَمْسَكَهَا، فَاسْتَغَاثَتْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَأَغَاثُوهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَأَهْلِ الْبَلَدِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَامَتْ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ، فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ، فَتَفَرَّقُوا، فَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرٍ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأَعْيَانُ، فَقَالُوا: الْمَصْلَحَةُ أَنْ تَقْتُلَ وَاحِدًا مِنَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ أَثَارُوا الْفِتْنَةَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَغَضِبَ مِنْهُ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ، وَأَظْهَرَ السِّلَاحَ وَالْعُدَدَ يُرِيدُ قِتَالَ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَرَكِبَ الْفُقَهَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَالشُّبَّانُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَتَحَصَّنَ بِالْقَصْرِ، فَحَصَرُوهُ، وَتَسَلَّقُوا إِلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَشَقَّةٍ وَتَعَبٍ، فَنَهَبُوا الْقَصْرَ، وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ دُورِ الْمُرَابِطِينَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْبَلَدِ عَلَى أَقْبَحِ صُورَةٍ.
وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِأَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ، وَجَمَّعَ الْعَسَاكِرَ مِنْ صَنْهَاجَةَ، وَزَنَاتَةَ، وَالْبَرْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَصَرَ مَدِينَةَ قُرْطُبَةَ، فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِيَ دَمَهُ وَحَرِيمَهُ وَمَالَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةَ قِتَالِهِمْ دَخَلَ السُّفَرَاءُ بَيْنَهُمْ، وَسَعَوْا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute