وَظَهَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَبَلَغَ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا الْخَبَرُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُخَوِّفُهُمْ إِنْ خَالَفُوهُ، وَيَعِدْهُمُ الْإِحْسَانُ إِنْ قَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمْ يُصْغُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَأَظْهَرُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَمَا يُسِرُّونَهُ، وَخَطَبُوا لِلْمَلِكِ مَسْعُودٍ بِالسَّلْطَنَةِ، وَضَرَبُوا لَهُ النُّوَبَ الْخَمْسَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى تَفَرُّقٍ مِنْ عَسَاكِرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَقَوِيَ طَمَعُهُمْ، وَأَسْرَعُوا السَّيْرَ إِلَيْهِ لِيَلْقَوْهُ وَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنَ الْعَسَاكِرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَسَارَ أَيْضًا إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ عَقَبَةِ أَسَدَابَاذَ، مُنْتَصَفَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَاقْتَتَلُوا مِنْ بُكْرَةٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ.
وَكَانَ الْبُرْسُقِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ بَلَاءً حَسَنًا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، آخِرَ النَّهَارِ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمُقَدَّمِيهِمْ، وَأُسِرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ وَزِيرُ مَسْعُودٍ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ: قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي فَسَادُ دِينِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ سَنَةً وَشَهْرًا، وَقَدْ جَاوَزَ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ وَالشِّعْرِ، يَمِيلُ إِلَى صَنْعَةِ الْكِيمْيَاءِ، وَلَهُ فِيهَا تَصَانِيفُ قَدْ ضَيَّعَتْ مِنَ النَّاسِ أَمْوَالًا لَا تُحْصَى.
وَأَمَّا الْمَلِكُ مَسْعُودٌ فَإِنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَتَفَرَّقُوا قَصَدَ جَبَلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْعَةِ اثْنَا عَشَرَ فَرْسَخًا، فَاخْتَفَى فِيهِ وَمَعَهُ غِلْمَانٌ صِغَارٌ، فَأَرْسَلَ رِكَابِيَّهُ عُثْمَانَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ الْأَمَانَ، فَسَارَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ وَأَعْلَمَهُ حَالَ أَخِيهِ مَسْعُودٍ، فَرَقَّ لَهُ وَبَذَلَ لَهُ الْأَمَانَ، وَأَمَرَ آقْسُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، وَتَطْبِيبِ قَلْبِهِ، وَإِعْلَامِهِ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وَإِحْضَارِهِ، فَكَانَ مَسْعُودٌ بَعْدَ أَنْ أُرْسِلَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ قَدْ وَصَلَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَيْهِ، وَحَسَّنَ لَهُ اللَّحَاقَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَتْ لَهُ، وَمَعَهَا أَذْرَبِيجَانُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُكَاتَبَةِ دُبَيْسِ بْنِ صَدَقَةَ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، وَيَكْثُرَ جَمْعُهُ، وَيُعَاوِدَ طَلَبَ السَّلْطَنَةِ، فَسَارَ مَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ.
وَوَصَلَ الْبُرْسُقِيُّ فَلَمْ يَرَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَسِيرِهِ، فَسَارَ فِي أَثَرِهِ، وَعَزَمَ عَلَى طَلَبِهِ وَلَوْ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ، فَأَدْرَكَهُ عَلَى ثَلَاثِينَ فَرْسَخًا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، وَعَرَّفَهُ عَفْوَ أَخِيهِ عَنْهُ، وَضَمِنَ لَهُ مَا أَرَادَ، وَأَعَادَهُ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْعَسَاكِرَ بِاسْتِقْبَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَ وَالِدَتِهِ، وَجَلَسَ لَهُ، وَأَحْضَرَهُ، وَاعْتَنَقَا، وَبَكَيَا، وَانْعَطَفَ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ، وَوَفَى لَهُ بِمَا بَذَلَهُ، وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute