للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبُرْسُقِيَّ نَفَرَ عَنْهُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ يَلْتَمِسُ مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ الْبُرْسُقِيَّ عَنِ الْعِرَاقِ وَيُعِيدَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَالِاشْتِغَالِ بِجِهَادِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْبُرْسُقِيُّ الْخَبَرَ شَرَعَ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ، وَوَصَلَ نَائِبُ يَرْنَقْشَ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْبُرْسُقِيُّ الْأَمْرَ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا مَعَ أُمِّهِ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ لِيَكُونَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ الصَّغِيرُ إِلَى الْعِرَاقِ خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْمَوَاكِبُ إِلَى لِقَائِهِ، وَحُمِلَتْ لَهُ الْإِقَامَاتُ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَسَلَّمَهُ الْبُرْسُقِيُّ وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُوَ وَوَالِدَتُهُ مَعَهُ.

وَلَمَّا سَارَ الْبُرْسُقِيُّ إِلَى الْمَوْصِلِ كَانَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِيُّ بْنُ آقْسُنْقُرَ بِالْبَصْرَةِ قَدْ سَيَّرَهُ الْبُرْسُقِيُّ إِلَيْهَا لِيَحْمِيَهَا، فَظَهَرَ مِنْ حِمَايَتِهِ لَهَا مَا عَجِبَ مِنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَزَلْ يَقْصِدُ الْعَرَبَ وَيُقَاتِلُهُمْ فِي حِلَلِهِمْ، حَتَّى أَبْعَدُوا إِلَى الْبَرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْبُرْسُقِيُّ يَأْمُرُهُ بِاللِّحَاقِ بِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ ضَجِرْنَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: كُلَّ يَوْمٍ لِلْمَوْصِلِ أَمِيرٌ جَدِيدٌ، وَنُرِيدُ نَخْدُمُهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسِيرَ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَكُونَ مَعَهُ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بِأَصْبَهَانَ فَأَكْرَمَهُ، وَأَقْطَعَهُ الْبَصْرَةَ وَأَعَادَهُ إِلَيْهَا.

ذِكْرُ مُلْكِ الْبُرْسُقِيِّ مَدِينَةَ حَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي ذِي الْحِجَّةِ، مَلَكَ آقْسُنْقُرُ مَدِينَةَ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا.

وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا مَلَكُوا مَدِينَةَ صُورَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، طَمِعُوا، وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ، وَتَيَقَّنُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَاسْتَكْثَرُوا مِنَ الْجُمُوعِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَيْهِمْ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ، فَأَطْمَعَهُمْ طَمَعًا ثَانِيًا، لَا سِيَّمَا فِي حَلَبَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَهَا شِيعَةٌ، وَهُمْ يَمِيلُونَ إِلَيَّ لِأَجْلِ الْمَذْهَبِ، فَمَتَى رَأَوْنِي سَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيَّ. وَبَذَلَ لَهُمْ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ بُذُولًا كَثِيرَةً، وَقَالَ: إِنَّنِي أَكُونُ هَاهُنَا نَائِبًا عَنْكُمْ وَمُطِيعًا لَكُمْ. فَسَارُوا مَعَهُ إِلَيْهَا وَحَصَرُوهَا، وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَوَطَّنُوا نُفُوسَهُمْ عَلَى الْمُقَامِ الطَّوِيلِ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهَا حَتَّى يَمْلِكُوهَا، وَبَنَوُا الْبُيُوتَ لِأَجْلِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ.

فَلَمَّا رَأَى أَهْلُهَا ذَلِكَ ضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَخَافُوا الْهَلَاكَ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ صَاحِبِهِمْ تَمَرْتَاشَ الْوَهَنُ وَالْعَجْزُ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا مَا دُفِعُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، أَعْمَلُوا الرَّأْيَ فِي طَرِيقٍ يَتَخَلَّصُونَ بِهِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُ الْبُرْسُقِيِّ،

<<  <  ج: ص:  >  >>