وَالْخَلِيفَةُ بِالدَّسْكَرَةِ، وَسَارَ دُبَيْسٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَقَصَدَ مَعَرَّةَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ تَعْبَانُ سَهْرَانُ، وَقَدْ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمَطَرِ وَالْبَلَلِ مَا آذَاهُمْ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ طُغْرَلَ وَأَصْحَابَهُ يَلْحَقُونَهُمْ، فَتَأَخَّرُوا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَنَزَلُوا جِيَاعًا قَدْ نَالَهُمُ الْبَرْدُ، وَإِذَا قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ الثِّيَابَ الْمَخِيطَةَ، وَالْعَمَائِمَ، وَالْأَقْبِيَةَ، وَالْقَلَانِسَ، وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَلْبُوسِ، وَتَحْمِلُ أَيْضًا أَنْوَاعَ الْأَطْعِمَةِ الْمَصْنُوعَةِ، قَدْ حُمِلَتْ مِنْ بَغْدَاذَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَخَذَ دُبَيْسٌ الْجَمِيعَ، فَلَبِسُوا الثِّيَابَ الْجُدُدَ، وَنَزَعُوا الثِّيَابَ النَّدِيَّةَ، وَأَكَلُوا الطَّعَامَ، وَنَامُوا فِي الشَّمْسِ مِمَّا نَالَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَهْلَ بَغْدَاذَ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَبَقُوا يَحْرُسُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَوَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالْعَسْكَرِ الَّذِينَ مَعَهُ أَنَّ دُبَيْسًا قَدْ مَلَكَ بَغْدَاذَ، فَرَحَلَ مِنَ الدَّسْكَرَةِ، وَوَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْعَسْكَرِ إِلَى النَّهْرَوَانَ، وَتَرَكُوا أَثْقَالَهُمْ مُلْقَاةً بِالطَّرِيقِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا أَحَدٌ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِهِمْ بِحُمَّى الْمَلِكِ طُغْرَلَ وَتَأَخُّرِهِ لَكَانَ قَدْ هَلَكَ الْعَسْكَرُ، وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَأُخِذُوا، وَكَانَتِ السَّوَاقِي مَمْلُوءَةً بِالْوَحْلِ وَالْمَاءِ مِنَ السَّيْلِ، فَتَمَزَّقُوا، وَلَوْ لَحِقَهُمْ مِائَةُ فَارِسٍ لَهَلَكُوا.
وَوَصَلَتْ رَايَاتُ الْخَلِيفَةِ، وَدُبَيْسٌ وَأَصْحَابُهُ نِيَامٌ، وَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ، وَأَشْرَفَ عَلَى دَيَالَى، وَدُبَيْسٌ نَازِلٌ غَرْبَ النَّهْرَوَانِ وَالْجِسْرُ مَمْدُودٌ شَرْقَ النَّهْرَوَانِ، فَلَمَّا أَبْصَرَ دُبَيْسٌ شَمْسَةَ الْخَلِيفَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ وَقَالَ: أَنَا الْعَبْدُ الْمَطْرُودُ، فَلْيَعْفُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ عَبْدِهِ.
فَرَقَّ الْخَلِيفَةُ لَهُ، وَهَمَّ بِصُلْحِهِ، حَتَّى وَصَلَ الْوَزِيرُ ابْنُ صَدَقَةَ فَثَنَاهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَرَكِبَ دُبَيْسٌ، وَوَقَفَ بِإِزَاءِ عَسْكَرِ يَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ يُحَادِثُهُمْ وَيَتَمَاجَنُ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَزِيرُ الرَّجَّالَةَ فَعَبَرُوا لِيَمُدُّوا الْجِسْرَ آخِرَ النَّهَارِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ دُبَيْسٌ عَائِدًا إِلَى الْمَلِكِ طُغْرَلَ، وَسَيَّرَ الْخَلِيفَةُ عَسْكَرًا مَعَ الْوَزِيرِ فِي أَثَرِهِ، عَادَ إِلَى بَغْدَاذَ فَدَخَلَهَا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ طُغْرَلَ وَدُبَيْسًا عَادَا وَسَارَا إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، فَاجْتَازَا بِهَمَذَانَ، فَقَسَّطَا عَلَى أَهْلِهَا مَالًا كَثِيرًا، وَأَخَذَاهُ وَغَابَا فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُمُ السُّلْطَانَ مَحْمُودًا، فَجَدَّ السَّيْرَ إِلَيْهِمْ، فَانْهَزَمُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتَبِعَتْهُمُ الْعَسَاكِرُ، فَدَخَلُوا خُرَاسَانَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَشَكَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَيَرْنَقْشَ الزَّكْوِيِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute