وَحُجَرَ الْخَلِيفَةِ، أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَضَجَّ أَهْلُ بَغْدَاذَ مِنْ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا وَنَادَوُا الْغُزَاةَ، فَأَقْبَلُوا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَلَمَّا رَآهُمُ الْخَلِيفَةُ خَرَجَ مِنَ السُّرَادِقِ وَالشِّمْسَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ الْكُوسَاتِ وَالْبُوقَاتِ، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آلَ هَاشِمٍ! وَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ السُّفُنِ، وَنَصَبَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَكَانَ لَهُ فِي الدَّارِ أَلْفُ رَجُلٍ مُخْتَفِينَ فِي السَّرَادِيبِ، فَظَهَرُوا، وَعَسْكَرُ السُّلْطَانِ مُشْتَغِلُونَ بِالنَّهْبِ، فَأُسِرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَنَهَبَ الْعَامَّةُ دَارَ وَزِيرِ السُّلْطَانِ، وَدُورَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَدَارَ عَزِيزِ الدِّينِ الْمُسْتَوْفِي، وَدَارَ الْحَكِيمِ أَوْحَدِ الزَّمَانِ الطَّبِيبِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الدُّرُوبِ.
ثُمَّ عَبَرَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ وَالسَّوَادِ، وَأَمَرَ بِحَفْرِ الْخَنَادِقِ، فَحُفِرَتْ بِاللَّيْلِ، وَحَفِظُوا بَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ السُّلْطَانِ، وَوَقَعَ الْغَلَاءُ عِنْدَ الْعَسْكَرِ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْقِتَالُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَبْوَابِ الْبَلَدِ وَعَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَعَزَمَ عَسْكَرُ الْخَلِيفَةِ عَلَى أَنْ يَكْبِسُوا عَسْكَرَ السُّلْطَانِ، فَغَدَرَ بِهِمُ الْأَمِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ الْكُرْدِيُّ، صَاحِبُ إِرْبَلَ، وَخَرَجَ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقِتَالَ، فَالْتَحَقَ هُوَ وَعَسْكَرُهُ بِالسُّلْطَانِ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ بِوَاسِطَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْضُرَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَعَهُ الْمُقَاتِلَةُ فِي السُّفُنِ، وَعَلَى الدَّوَابِّ فِي الْبَرِّ، فَجَمَعَ كَلَّ سَفِينَةٍ فِي الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَاذَ، وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ، وَأَكْثَرَ مِنَ السِّلَاحِ، وَأَصْعَدَ، فَلَمَّا قَارَبَ بَغْدَاذَ أَمَرَ كُلَّ مَنْ مَعَهُ فِي السُّفُنِ وَفِي الْبَرِّ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، وَإِظْهَارِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَلَدِ وَالنَّهْضَةِ، فَسَارَتِ السُّفُنُ فِي الْمَاءِ، وَالْعَسْكَرُ فِي الْبَرِّ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ قَدِ انْتَشَرُوا وَمَلَأُوا الْأَرْضَ بَرًّا وَبَحْرًا، فَرَأَى النَّاسُ مَنْظَرًا عَجِيبًا، كَبُرَ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَمَلَأَ صُدُورَهُمْ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ وَالْعَسْكَرُ إِلَى لِقَائِهِمْ، فَنَظَرُوا إِلَى مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ، وَعَظُمَ عِمَادُ الدِّينِ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى قِتَالِ بَغْدَاذَ حِينَئِذٍ، وَالْجِدِّ فِي ذَلِكَ فِي الْبَرِّ وَالْمَاءِ. فَلَمَّا رَأَى الْإِمَامُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ الْأَمْرَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَخُرُوجَ الْأَمِيرِ أَبِي الْهَيْجَاءِ مِنْ عِنْدِهِ، أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاصْطَلَحَا، وَاعْتَذَرَ السُّلْطَانُ مِمَّا جَرَى، وَكَانَ حَلِيمًا يَسْمَعُ سَبَّهُ بِأُذُنِهِ فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَعَفَا عَنْ أَهْلِ بَغْدَاذَ جَمِيعِهِمْ.
وَكَانَ أَعْدَاءُ الْخَلِيفَةِ يُشِيرُونَ عَلَى السُّلْطَانِ بِإِحْرَاقِ بَغْدَاذَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: لَا تُسَاوِي الدُّنْيَا فِعْلُ مِثْلِ هَذَا. وَأَقَامَ بِبَغْدَاذَ إِلَى رَابِعِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَمَلَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْمَالِ إِلَيْهِ كَمَا اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَيْهِ، وَأَهْدَى لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute