وَأَمَّا الرُّومُ فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا قَلْعَةَ شَيْزَرَ، فَإِنَّهَا مِنْ أَمْنَعِ الْحُصُونِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِزَنْكِي، فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي حِفْظِهَا الِاهْتِمَامُ الْعَظِيمُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِلْأَمِيرِ أَبِي الْعَسَاكِرِ سُلْطَانِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مِقْلَدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذِ الْكِنَانِيِّ، فَنَازَلُوهَا وَحَصَرُوهَا، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنْجَنِيقًا، فَأَرْسَلَ صَاحِبُهَا إِلَى زَنْكِي يَسْتَنْجِدُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَى نَهَرِ الْعَاصِي بِالْقُرْبِ مِنْهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمَاةَ، وَكَانَ يَرْكَبُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَسِيرُ إِلَى شَيْزَرَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ، وَيَقِفُونَ بِحَيْثُ يَرَاهُمُ الرُّومُ، وَيُرْسِلُ السَّرَايَا فَتَأْخُذُ مَنْ ظَفِرَتْ بِهِ مِنْهُمْ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ يَقُولُ لَهُ:
إِنَّكُمْ قَدْ تَحَصَّنْتُمْ مِنِّي بِهَذِهِ الْجِبَالِ، فَانْزِلُوا مِنْهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ حَتَّى نَلْتَقِيَ، فَإِنْ ظَفِرَتْ بِكُمْ أَرَحْتُ الْمُسْلِمِينَ مِنْكُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُمِ اسْتَرَحْتُمْ وَأَخَذْتُمْ شَيْزَرَ وَغَيْرَهَا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرْهِبُهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَأَشْبَاهِهِ، فَأَشَارَ فِرِنْجُ الشَّامِ عَلَى مَلِكِ الرُّومِ بِمُصَافَّتِهِ، وَهَوَّنُوا أَمْرَهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ:
أَتَظُنُّونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَّا مَا تَرَوْنَ؟ إِنَّمَا هُوَ يُرِيدُ أَنْ تَلْقَوْهُ فَيَجِيئُهُ مِنْ نَجَدَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَا حَدَّ لَهُ.
وَكَانَ زَنْكِي يُرْسِلُ أَيْضًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُوهِمُهُ بِأَنَّ فِرِنْجَ الشَّامِ خَائِفُونَ مِنْهُ، فَلَوْ فَارَقَ مَكَانَهُ لَتَخَلَّوْا عَنْهُ، وَيُرْسِلُ إِلَى فِرِنْجِ الشَّامِ يُخَوِّفُهُمْ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ وَيَقُولُ لَهُمْ:
إِنْ مَلَكَ بِالشَّامِ حِصْنًا وَاحِدًا مَلَكَ بِلَادَكُمْ جَمِيعًا، فَاسْتَشْعَرَ كُلٌّ مِنْ صَاحِبِهِ، فَرَحَلَ مَلِكُ الرُّومِ عَنْهَا فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مَقَامُهُ عَلَيْهَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَتَرَكَ الْمَجَانِيقَ وَآلَاتِ الْحِصَارِ بِحَالِهَا، فَسَارَ أَتَابَكْ [زَنْكِي] يَتْبَعُ سَاقَهُ الْعَسْكَرُ، فَظَفِرَ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا تَرَكُوهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْفِرِنْجُ عَلَى بُزَاعَةَ أَرْسَلَ زَنْكِي الْقَاضِي كَمَالَ الدِّينِ أَبَا الْفَضْلِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيَّ إِلَى السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَنْجِدُهُ وَيَطْلُبُ الْعَسَاكِرَ، فَمَضَى إِلَى بَغْدَادَ، وَأَنْهَى الْحَالَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَعَرَّفَهُ عَاقِبَةَ الْإِهْمَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ إِلَّا أَنْ يَمْلِكُوا حَلَبَ وَيَنْحَدِرُوا مَعَ الْفُرَاتِ إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ حَرَكَةً، فَوَضَعَ إِنْسَانًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ جُمْعَةٍ، فَمَضَى إِلَى جَامِعِ الْقَصْرِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ رُنُودِ الْعَجَمِ، وَأَمَرَ أَنْ يَثُورَ بِهِمْ إِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ وَيَصِيحُ وَيَصِيحُوا مَعَهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute