وَأَطْلَقَ الْحَمَامَ فَوَصَلَ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ، فَسُرَّ الْأَمِيرُ الْحَسَنُ وَالنَّاسُ ; وَأَرَادَ جُرْجِي بِذَلِكَ أَنْ يَصِلَ بَغْتَةً، ثُمَّ سَارَ، وَقُدِّرَ وُصُولُهُمْ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ وَقْتَ السَّحَرِ لِيُحِيطَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا، فَلَوْ تَمَّ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا هَائِلَةً عَكَسَتْهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَّا بِالْمَقَاذِيفِ، فَطَلَعَ النَّهَارُ ثَانِيَ صَفَرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ، فَرَآهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا رَأَى جُرْجِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْخَدِيعَةَ فَاتَتْهُ، أَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ الْحَسَنِ يَقُولُ: إِنَّمَا جِئْتُ بِهَذَا الْأُسْطُولِ طَالِبًا بِثَأْرِ مُحَمَّدِ بْنِ رَشِيدٍ صَاحِبِ قَابِسَ وَرَدِّهِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا أَنْتَ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عُهُودٌ وَمِيثَاقٌ إِلَى مُدَّةٍ، وَنُرِيدُ مِنْكَ عَسْكَرًا يَكُونُ مَعَنَا.
فَجَمَعَ الْحَسَنُ النَّاسَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَشَاوَرَهُمْ، فَقَالُوا: نُقَاتِلُ عَدُوَّنَا، فَإِنَّ بَلَدَنَا حَصِينٌ. فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى الْبَرِّ وَيَحْصُرَنَا بَرًّا وَبَحْرًا، وَيَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمِيرَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا يَقُوتُنَا شَهْرًا، فَنُؤْخَذَ قَهْرًا. وَأَنَا أَرَى سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ خَيْرًا مِنَ الْمُلْكِ، وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي عَسْكَرًا إِلَى قَابِسَ، فَإِذَا فَعَلْتُ فَمَا يَحِلُّ لِي مَعُونَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا امْتَنَعْتُ يَقُولُ: انْتَقَضَ مَا بَيْنَنَا مِنَ الصُّلْحِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يُثَبِّطَنَا حَتَّى يَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَرِّ، وَلَيْسَ لَنَا بِقِتَالِهِ طَاقَةٌ، وَالرَّأْيُ أَنْ نَخْرُجَ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَنَتْرُكَ الْبَلَدَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِنَا فَلْيُبَادِرْ مَعَنَا.
وَأَمَرَ فِي الْحَالِ بِالرَّحِيلِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ وَمَا خَفَّ حَمْلُهُ، وَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ بِأَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَمَا خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَثَاثِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنِ اخْتَفَى عِنْدَ النَّصَارَى وَفِي الْكَنَائِسِ، وَبَقِيَ الْأُسْطُولُ فِي الْبَحْرِ تَمْنَعُهُ الرِّيحُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَهْدِيَّةِ إِلَى ثُلُثَيِ النَّهَارِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي الْبَلَدِ مِمَّنْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ أَحَدٌ، فَوَصَلَ الْفِرِنْجُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ بِغَيْرِ مَانِعٍ وَلَا دَافِعٍ، وَدَخَلَ جُرْجِي الْقَصْرَ فَوَجَدَهُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَأْخُذِ الْحَسَنُ مِنْهُ إِلَّا مَا خَفَّتْ مِنْ ذَخَائِرِ الْمُلُوكِ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ حَظَايَاهُ، وَرَأَى الْخَزَائِنَ مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّخَائِرِ النَّفِيسَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ غَرِيبٍ يَقِلُّ وُجُودُ مِثْلِهِ، فَخَتَمَ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ سَرَارِيَ الْحَسَنِ فِي قَصْرِهِ.
وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمْ مِنْ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ إِلَى الْحَسَنِ تِسْعَةَ مُلُوكٍ، وَمُدَّةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute