ذِكْرُ إِيقَاعِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِالْعَرَبِ
لَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَمْرِ الْمَهْدِيَّةِ وَأَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى الْغَرْبِ جَمَعَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي رِيَاحٍ الَّذِينَ كَانُوا بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْنَا نُصْرَةُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ بِالْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يُقَاتِلُهُمْ أَحَدٌ مِثْلُكُمْ، فَبِكُمْ فُتِحَتِ الْبِلَادُ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَبِكُمْ يُدْفَعُ عَنْهَا الْعَدُوُّ الْآنَ، وَنُرِيدُ مِنْكُمْ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَجَابُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَحَلَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْمُصْحَفِ، فَحَلَفُوا، وَمَشَوْا مَعَهُ إِلَى مَضِيقِ جَبَلِ زَغْوَانَ.
وَكَانَ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَرُءُوسِ الْقَبَائِلِ فِيهَا، فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بِاللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ سِرًّا: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَرِهَتِ الْمَسِيرَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَالُوا: مَا غَرَضُهُ إِلَّا إِخْرَاجُنَا مِنْ بِلَادِنَا، وَإِنَّهُمْ لَا يُفُونَ بِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَأْخُذُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْغَادِرَ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ هَرَبُوا إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وَدَخَلُوا الْبَرَّ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوسُفُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَمَّاهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ يُوسُفَ الصَّادِقَ.
وَلَمْ يُحْدِثْ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ فِي أَمْرِهِمْ شَيْئًا، وَسَارَ مَغْرِبًا يَحُثُّ السَّيْرَ حَتَّى قَرُبَ مِنَ الْقُسَنْطِينَةِ، فَنَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مُخْصِبٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي النِّسَاءِ، وَالْفَصْلُ رَبِيعٌ، وَالْكَلَأُ مُسْتَحْسَنٌ، فَأَقَامَ بِهِ، وَضَبَطَ الطُّرُقَ، فَلَا يَسِيرُ مِنَ الْعَسْكَرِ أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَدَامَ ذَلِكَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَبَقِيَ النَّاسُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ لَا يَعْرِفُونَ لِهَذَا الْعَسْكَرِ خَبَرًا مَعَ كَثْرَتِهِ وَعِظَمِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا أَزْعَجَهُ إِلَّا خَبَرٌ وَصَلَهُ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَحَثَّ لِأَجْلِهِ السَّيْرَ، فَعَادَتِ الْعَرَبُ الَّذِينَ جَفَلُوا مِنْهُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى الْبِلَادِ لَمَّا أَمِنُوا جَانِبَهُ، وَسَكَنُوا الْبِلَادَ الَّتِي أَلِفُوهَا، وَاسْتَقَرُّوا فِي الْبِلَادِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute