للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بِرُجُوعِهِمْ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ وَلَدَيْهِ أَبَا مُحَمَّدٍ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ مِنْ أَعْيَانِ الْمُوَحِّدِينَ وَشُجْعَانِهِمْ، فَجَدُّوا السَّيْرَ، وَقَطَعُوا الْمَفَاوِزَ، فَمَا شَعَرَ الْعَرَبُ إِلَّا وَالْجَيْشُ قَدْ أَقْبَلَ بَغْتَةً مِنْ وَرَائِهِمْ، مِنْ جِهَةِ الصَّحْرَاءِ، لِيَمْنَعَهُمُ الدُّخُولَ إِنْ رَامُوا ذَلِكَ.

وَكَانُوا قَدْ نَزَلُوا جَنُوبًا مِنَ الْقَيْرَوَانِ عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الْقَرْنِ، وَهُمْ زُهَاءُ ثَمَانِينَ أَلْفَ بَيْتٍ، وَالْمَشَاهِيرُ مِنْ مُقَدَّمِيهِمْ: أَبُو مَحْفُوظٍ مُحْرِزُ بْنُ زَيَّادٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ، وَجُبَارَةُ بْنُ كَامِلٍ وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا أَطَلَّتْ عَسَاكِرُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِمُ اضْطَرَبُوا، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَفَرَّ مَسْعُودٌ وَجُبَارَةُ بْنُ كَامِلٍ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ عَشَائِرِهِمَا، وَثَبَتَ مُحْرِزُ بْنُ زَيَّادٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالْقِتَالِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَثَبَتَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، فَنَاجَزَهُمُ الْمُوَحِّدُونَ الْقِتَالَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ، وَثَبَتَ الْجَمْعَانِ، وَاشْتَدَّ الْعِرَاكُ بَيْنَهُمْ وَكَثُرَ الْقَتْلُ، فَاتَّفَقَ أَنَّ مُحْرِزَ بْنَ زَيَّادٍ قُتِلَ، وَرُفِعَ رَأْسُهُ عَلَى رُمْحٍ، فَانْهَزَمَتْ جُمُوعُ الْعَرَبِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَسْلَمُوا الْبُيُوتَ وَالْحَرِيمَ وَالْأَوْلَادَ وَالْأَمْوَالَ، وَحُمِلَ جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ بِذَلِكَ الْمَنْزِلِ، فَأَمَرَ بِحِفْظِ النِّسَاءِ الْعَرَبِيَّاتِ الصَّرَائِحِ، وَحَمَلَهُنَّ مَعَهُ تَحْتَ الْحِفْظِ وَالْبِرِّ وَالصِّيَانَةِ إِلَى بِلَادِ الْغَرْبِ، وَفَعَلَ مَعَهُنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي حَرِيمِ الْأَبْثَجِ.

ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ رِيَاحٍ مُهَاجِرِينَ فِي طَلَبِ حَرِيمِهِمْ كَمَا فَعَلَ الْأَبْثَجُ، فَأَجْمَلَ الصَّنِيعَ لَهُمْ، وَرَدَّ الْحَرِيمَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا صَارَ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ حُكْمِهِ، وَهُوَ يَخْفِضُ لَهُمُ الْجَنَاحَ وَيَبْذُلُ فِيهِمُ الْإِحْسَانَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَهَّزَهُمْ إِلَى ثُغُورِ الْأَنْدَلُسِ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَجُمِعَتْ عِظَامُ الْعَرَبِ الْمَقْتُولِينَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ عِنْدَ جَبَلِ الْقَرْنِ، فَبَقِيَتْ دَهْرًا طَوِيلًا كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ يَلُوحُ لِلنَّاظِرِينَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَبَقِيَتْ إِفْرِيقِيَّةُ مَعَ نُوَّابِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ آمِنَةً سَاكِنَةً لَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ أُمَرَاءِ الْعَرَبِ خَارِجًا عَنْ طَاعَتِهِ إِلَّا مَسْعُودُ بْنُ زِمَامٍ، وَطَائِفَتُهُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ.

ذِكْرُ غَرَقِ بَغْدَادَ

فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثَامِنِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، كَثُرَتِ الزِّيَادَةُ فِي دِجْلَةَ، وَخَرَقَ الْقُورَجُ فَوْقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>