وَخَطَرِ الطَّرِيقِ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَكُلُّهُمْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِعُبُورِ النِّيلِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ نَحْنُ انْهَزَمْنَا، وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَإِلَى أَيْنَ نَلْتَجِئُ، وَبِمَنْ نَحْتَمِي، وَكُلُّ مَنْ فِي هَذِهِ الدِّيَارِ مِنْ جُنْدِيٍّ وَعَامِيٍّ وَفَلَّاحٍ عَدُوٌّ لَنَا؟
فَقَامَ أَمِيرٌ مِنْ مَمَالِيكِ نُورِ الدِّينِ يُقَالُ لَهُ شَرَفُ الدِّينِ بَزْغُشُ، صَاحِبُ شَقِيفَ، وَكَانَ شُجَاعًا، وَقَالَ: مَنْ يَخَافُ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فَلَا يَخْدِمُ الْمُلُوكَ بَلْ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ عُدْنَا إِلَى نُورِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ وَلَا بَلَاءٍ نُعْذَرُ فِيهِ لِيَأْخُذَنَّ مَا لَنَا مِنْ أَقْطَاعٍ وَجَامِكِيَّةٍ، وَلَيَعُودَنَّ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا أَخَذْنَاهُ مُنْذُ خَدَمْنَاهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَيَقُولُ: تَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَتَفِرُّونَ عَنْ عَدُوِّهِمْ، وَتُسَلِّمُونَ مِثْلَ مِصْرَ إِلَى الْكُفَّارِ! وَالْحَقُّ بِيَدِهِ.
فَقَالَ أَسَدُ الدِّينِ: هَذَا الرَّأْيُ، وَبِهِ أَعْمَلُ، وَقَالَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ مِثْلَهُ، وَكَثُرَ الْمُوَافِقُونَ لَهُمْ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْقِتَالِ، فَأَقَامَ بِمَكَانِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْفِرِنْجُ وَهُوَ عَلَى تَعْبِئَةٍ، وَجَعَلَ الْأَثْقَالَ فِي الْقَلْبِ يَتَكَثَّرُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَتْرُكَهَا بِمَكَانٍ آخَرَ فَيَنْهَبُهَا أَهْلُ الْبِلَادِ، وَجَعَلَ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ وَلِمَنْ مَعَهُ: إِنَّ الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجَ يَجْعَلُونَ حَمْلَتَهُمْ عَلَى الْقَلْبِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنِّي فِيهِ، فَإِذَا حَمَلُوا عَلَيْكُمْ فَلَا تَصْدُقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَلَا تُهْلِكُوا نُفُوسَكُمْ، وَانْدَفِعُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَإِذَا عَادُوا عَنْكُمْ، فَارْجِعُوا فِي أَعْقَابِهِمْ.
وَاخْتَارَ هُوَ مِنْ شُجْعَانِ عَسْكَرِهِ جَمْعًا يَثِقُ بِهِمْ وَيَعْرِفُ صَبْرَهُمْ فِي الْحَرْبِ، وَوَقَفَ بِهِمْ فِي الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا تَقَاتَلَ الطَّائِفَتَانِ فَعَلَ الْفِرِنْجُ مَا ذَكَرَهُ، وَحَمَلُوا عَلَى الْقَلْبِ، فَقَاتَلَهُمْ مَنْ بِهِ قِتَالًا يَسِيرًا، وَانْهَزَمُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَحَمَلَ حِينَئِذٍ أَسَدُ الدِّينِ فِيمَنْ مَعَهُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الَّذِينَ حَمَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَهَزَمَهُمْ، وَوَضَعَ السَّيْفَ فِيهِمْ، فَأَثْخَنَ وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ، فَلَمَّا عَادَ الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ رَأَوْا عَسْكَرَهُمْ مَهْزُومًا، وَالْأَرْضَ قَفْرًا، فَانْهَزَمُوا أَيْضًا، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْجَبِ مَا يُؤَرَّخُ أَنَّ أَلْفَيْ فَارِسٍ تَهْزِمُ عَسَاكِرَ مِصْرَ وَفِرِنَجَ السَّاحِلِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute