وُصُولُهُ الْعَصْرَ، وَقَدْ تَعِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَعَطِشُوا، فَأَلْقَوْا نُفُوسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِمْ حَرَكَةٌ، فَأَشَارَ عَلَى سَيْفِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَقَالَ زَلْفِنْدَارُ: مَا بِنَا هَذِهِ الْحَاجَةُ إِلَى قِتَالِ هَذَا الْخَارِجِيِّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، غَدًا بُكْرَةً نَأْخُذُهُمْ كُلَّهُمْ، فَتَرَكَ الْقِتَالَ إِلَى الْغَدِ.
فَلَمَّا أَصْبَحُوا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ زَلْفِنْدَارُ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِلْعَسْكَرِ السَّيْفِيِّ، أَعْلَاهُمْ فِي وَهْدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، لَا يَرَاهَا إِلَّا مَنْ هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، فَلَمَّا لَمْ يَرَهَا النَّاسُ ظَنُّوا أَنَّ السُّلْطَانَ قَدِ انْهَزَمَ، فَلَمْ يَثْبُتُوا وَانْهَزَمُوا، وَلَمْ يَلْوِ أَخٌ عَلَى أَخِيهِ، وَلَمْ يُقْتَلْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَوَصَلَ سَيْفُ الدِّينِ إِلَى حَلَبَ، وَتَرَكَ بِهَا أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي جَمْعٍ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يُقِمْ هُوَ، وَعَبَرَ الْفُرَاتَ، وَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُوَ لَا يُصَدِّقُ أَنَّهُ يَنْجُو.
وَظَنَّ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يَعْبُرُ الْفُرَاتَ وَيَقْصِدُهُ بِالْمَوْصِلِ، فَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ جَلَالَ الدِّينِ وَمُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، فِي مُفَارَقَةِ الْمَوْصِلِ وَالِاعْتِصَامِ بِقَلْعَةِ عَقْرَ الْحُمَيْدِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدُ الدِّينِ: أَرَأَيْتَ إِنْ مُلِكَتِ الْمَوْصِلُ عَلَيْكَ، أَتَقْدِرُ أَنْ تَمْتَنِعَ بِبَعْضِ أَبْرَاجِ الْفَصِيلِ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: بُرْجٌ فِي الْفَصِيلِ خَيْرٌ مِنَ الْعَقْرِ، وَمَا زَالَ الْمُلُوكُ يَنْهَزِمُونَ وَيُعَاوِدُونَ الْحَرْبَ، وَاتَّفَقَ هُوَ وَالْوَزِيرُ عَلَى شَدِّ أَزْرِهِ، وَتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ، فَثَبَتَ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ زَلْفِنْدَارَ وَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ مَكَانَهُ عَلَى إِمَارَةِ الْجُيُوشِ مُجَاهِدَ الدِّينِ قَايْمَازَ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي كِتَابِ " الْبَرْقُ الشَّامِيُّ " فِي تَارِيخِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ أَنَّ سَيْفَ الدِّينِ كَانَ عَسْكَرُهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ يَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّنِي وَقَفْتُ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute