للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَصَابَهُ بِهَا مَرَضٌ فَمَاتَ مِنْهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحُمِلَ فِي تَابُوتٍ إِلَى مَدِينَةِ إِشْبِيلِيَّةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ.

وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَمَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ بِالْمُلْكِ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُ قُوَّادِ الْمُوَحِّدِينَ وَأَوْلَادِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ [عَلَى تَمْلِيكِ وَلَدِهِ أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ] فَمَلَّكُوهُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَبُوهُ لِئَلَّا يَكُونُوا بِغَيْرِ مَلِكٍ يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ أَحْسَنَ قِيَامٍ، وَأَقَامَ رَايَةَ الْجِهَادِ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي النَّاسِ. وَكَانَ دَيِّنًا مُقِيمًا لِلْحُدُودِ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَاسْتَقَامَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ وَانْقَادَتْ إِلَيْهِ بِأَسْرِهَا مَعَ سِعَةِ أَقْطَارِهَا، وَرَتَّبَ ثُغُورَ الْأَنْدَلُسِ وَشَحَنَهَا بِالرِّجَالِ، وَرَتَّبَ الْمُقَاتِلَةَ فِي سَائِرِ بِلَادِهَا، وَأَصْلَحَ أَحْوَالَهَا وَعَادَ إِلَى مُرَّاكِشَ.

وَكَانَ أَبُوهُ يُوسُفُ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَ طَرِيقُهُ أَلْيَنَ مِنْ طَرِيقِ أَبِيهِ مَعَ النَّاسِ، يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَيُقَرِّبُهُمْ وَيُشَاوِرُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ خِدْمَتِهِ وَخَاصَّتِهِ. وَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَمَالُوا إِلَيْهِ، وَأَطَاعَهُ مِنَ الْبِلَادِ مَا امْتَنَعَ عَلَى أَبِيهِ، وَسَلَكَ فِي جِبَايَةِ الْأَمْوَالِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَأْخُذُهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُ الْبِلَادُ بِحُسْنِ فِعْلِهِ مَعَ أَهْلِهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

ذِكْرُ غَزْوِ صَلَاحِ الدِّينِ الْكَرَكِ

فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْ دِمَشْقَ يُرِيدُ الْغَزْوَ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ، فَأَتَتْهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمِمَّنْ أَتَاهُ نُورُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبُ الْحِصْنِ. وَكَتَبَ إِلَى مِصْرَ لِيَحْضُرَ عَسْكَرُهَا عِنْدَهُ عَلَى الْكَرَكِ، فَنَازَلَ الْكَرَكَ وَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الْمَجَانِيقِ عَلَى رَبَضَهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَمَلَكَ الْمُسْلِمُونَ الرَّبَضَ، وَبَقِيَ الْحِصْنُ، وَهُوَ وَالرَّبَضُ عَلَى سَطْحِ جَبَلٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا خَنْدَقًا

<<  <  ج: ص:  >  >>