عَظِيمًا عُمْقُهُ نَحْوُ سِتِّينَ ذِرَاعًا، فَأَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِلْقَاءِ الْأَحْجَارِ وَالتُّرَابِ فِيهِ لِيَطِمَّهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ لِكَثْرَةِ الرَّمْيِ عَلَيْهِمْ بِالسِّهَامِ مِنَ الْجُرْخِ وَالْقَوْسِ وَالْأَحْجَارِ مِنَ الْمَجَانِيقِ، فَأَمَرَ أَنْ يُبْنَى بِالْأَخْشَابِ وَاللَّبِنِ مَا يُمَكِّنُ الرِّجَالَ يَمْشُونَ تَحْتَهُ إِلَى الْخَنْدَقِ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ السِّهَامِ وَالْأَحْجَارِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ، فَصَارُوا يَمْشُونَ تَحْتَ السَّقَائِفِ وَيُلْقُونَ فِي الْخَنْدَقِ مَا يَطِمُّهُ، وَمَجَانِيقُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ ذَلِكَ تَرْمِي الْحِصْنَ لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَأَرْسَلَ مَنْ فِيهِ مِنَ الْفِرِنْجِ إِلَى مَلِكِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ يَسْتَمِدُّونَهُمْ وَيُعَرِّفُونَهُمْ عَجْزَهُمْ وَضَعْفَهُمْ عَنْ حِفْظِ الْحِصْنِ، فَاجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ آخِرِهَا، وَسَارُوا إِلَى نَجْدَتِهِمْ عَجِلِينَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ بِمَسِيرِهِمْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ رَحَلَ عَنِ الْكَرَكِ إِلَى طَرِيقِهِمْ لِيَلْقَاهُمْ وَيُصَافِفَهُمْ، وَيُعُودَ بَعْدَ أَنْ يَهْزِمَهُمْ إِلَى الْكَرَكِ، فَقَرُبَ مِنْهُمْ وَخَيَّمَ وَنَزَلَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الدُّنُوُّ مِنْهُمْ لِخُشُونَةِ الْأَرْضِ وَصُعُوبَةِ الْمَسْلَكِ إِلَيْهِمْ وَضِيقِهِ، فَأَقَامَ أَيَّامًا يَنْتَظِرُ خُرُوجَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَبْرَحُوا مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَحَلَ عَنْهُمْ عِدَّةَ فَرَاسِخَ، وَجَعَلَ بِإِزَائِهِمْ مَنْ يُعْلِمُهُ بِمَسِيرِهِمْ، فَسَارُوا لَيْلًا إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمَّا عَلِمَ صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ حِينَئِذٍ وَلَا يَبْلُغُ غَرَضَهُ، فَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ نَابُلُسَ، وَنَهَبَ كُلَّ مَا عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَابُلُسَ أَحْرَقَهَا وَخَرَّبَهَا وَنَهَبَهَا، وَقَتَلَ فِيهَا وَأَسَرَ وَسَبَى فَأَكْثَرَ، وَسَارَ عَنْهَا إِلَى سَبَسْطِيَةَ، وَبِهَا مَشْهَدُ زَكَرِيَّاءَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِهَا كَنِيسَةٌ، وَبِهَا جَمَاعَةُ أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَنْقَذَهُمْ، وَرَحَلَ إِلَى جِينِينَ فَنَهَبَهَا وَخَرَّبَهَا، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَنَهَبَ مَا عَلَى طَرِيقِهِ وَخَرَّبَهُ، وَبَثَّ السَّرَايَا فِي طَرِيقِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا يَغْنَمُونَ وَيُخَرِّبُونَ، وَوَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ.
ذِكْرُ مُلْكِ الْمُلَثَّمِينَ بِجَابَةَ وَعَوْدِهَا إِلَى أَوْلَادِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَعْبَانَ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ غَانِيَةَ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الْمُلَثَّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ صَاحِبُ جَزِيرَةِ مَيُورْقَةَ، إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute