عِنْدَهُ مَنَعَهُ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعِهِ، فَصَارَ إِقْطَاعُهُ حَمَاةَ، وَمَنْبَجَ، وَالْمَعَرَّةَ، وَكَفْرَ طَابَ، وَمَيَّافَارِقِينَ، وَجَبَلَ جَوْرٍ، بِجَمِيعِ أَعْمَالِهَا.
وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ قَدْ سَيَّرَ فِي مُقَدِّمَتِهِ مَمْلُوكَهُ بِوَزَّابَةَ، فَاتَّصَلَ بِقَرَاقُوشَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَقَدْ بَلَغَنِي مِنْ خَبِيرٍ بِأَحْوَالِ صَلَاحِ الدِّينِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى أَخْذِ حَلَبَ مِنَ الْعَادِلِ، وَإِعَادَةِ تَقِيِّ الدِّينِ إِلَى الشَّامِ، أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ لَمَّا مَرِضَ بِحَرَّانَ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، أُرْجِفَ بِمِصْرَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ.
فَجَرَى مِنْ تَقِيِّ الدِّينِ حَرَكَاتُ مَنْ يُرِيدُ [أَنَّ] يَسْتَبِدَّ بِالْمُلْكِ، فَلَمَّا عُوفِيَ صَلَاحُ الدِّينِ بَلَغَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْفَقِيهَ عِيسَى الْهَكَّارِيَّ، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، مُطَاعًا فِي الْجُنْدِ، إِلَى مِصْرَ، وَأَمَرَهُ بِإِخْرَاجِ تَقِيِّ الدِّينِ وَالْمَقَامِ بِمِصْرَ.
فَسَارَ مُجِدًّا، فَلَمْ يَشْعُرْ تَقِيُّ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ الْفَقِيهُ عِيسَى إِلَى دَارِهِ بِالْقَاهِرَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، فَطَلَبَ أَنْ يُمْهَلَ إِلَى أَنْ يَتَجَهَّزَ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: تُقِيمُ خَارِجَ [الْمَدِينَةِ] وَتَتَجَهَّزُ.
فَخَرَجَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى الْغَرْبِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخَبَرَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَطْلُبُهُ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا صَبُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا أَخْذُ حَلَبَ مِنَ الْعَادِلِ، فَإِنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ جُنْدِهَا أَمِيرٌ كَبِيرٌ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ، قَبْلَ الْمُلْكِ.
وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَاقِلًا ذَا مَكْرٍ وَدَهَاءٍ، فَاتُّفِقَ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَادِلَ لَمَّا كَانَ بِحَلَبَ لَمْ يَفْعَلْ مَعَهُ مَا كَانَ يَظُنُّهُ، وَقَدَّمَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَتَأَثَّرَ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا مَرِضَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَعُوفِيَ، سَارَ إِلَى الشَّامِ، فَسَايَرَهُ يَوْمًا سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ، فَجَرَى حَدِيثُ مَرَضِهِ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: بِأَيِّ رَأْيٍ كُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ تَمْضِي إِلَى الصَّيْدِ فَلَا يُخَالِفُونَكَ؟ بِاللَّهِ مَا تَسْتَحِي يَكُونُ الطَّائِرُ أَهْدَى مِنْكَ إِلَى الْمَصْلَحَةِ؟ ! قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ وَهُوَ يَضْحَكُ.
قَالَ: إِذَا أَرَادَ الطَّائِرُ أَنْ يَعْمَلَ عُشًّا لِفِرَاخِهِ قَصَدَ أَعَالِيَ الشَّجَرِ لِيَحْمِيَ فِرَاخَهُ، وَأَنْتَ سَلَّمْتَ الْحُصُونَ إِلَى أَهْلِكَ، وَجَعَلْتَ أَوْلَادَكَ عَلَى الْأَرْضِ. هَذِهِ حَلَبُ بِيَدِ أَخِيكَ وَحَمَاةُ بِيَدِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَحِمْصُ بِيَدِ ابْنِ شِيرِكُوهُ، وَابْنُكَ الْعَزِيزُ مَعَ تَقِيِّ الدِّينِ بِمِصْرَ يُخْرِجُهُ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادَ، وَهَذَا ابْنُكَ الْآخَرُ مَعَ أَخِيكَ فِي خَيْمَةٍ يَفْعَلُ بِهِ مَا أَرَادَ.
فَقَالَ لَهُ صَدَقْتَ، وَاكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ، ثُمَّ أَخَذَ حَلَبَ مِنْ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَ تَقِيَّ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ، ثُمَّ أَعْطَى أَخَاهُ الْعَادِلَ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَمَيَّافَارِقِينَ لِيُخْرِجَهُ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ، لِتَبْقَى لِأَوْلَادِهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ مَا فَعَلَ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى نَقْلَ