ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمَلِكَةَ هَوِيَتْ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِنَ الْغَرْبِ اسْمُهُ كِي، فَتَزَوَّجَتْهُ، وَنَقَلَتِ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، وَجَعَلَتِ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَحْضَرَتِ الْبَطْرَكَ، وَالْقُسُوسَ، وَالرُّهْبَانَ، وَالِاسْبِتَارِيَّةَ، وَالدَّاوِيَّةَ، وَالْبَارُونِيَّةَ، وَأَعْلَمَتْهُمْ أَنَّهَا قَدْ رَدَّتِ الْمُلْكَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَتْهُمْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَطَاعُوهُ، وَدَانُوا لَهُ.
فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْقُمُّصِ، وَسُقِطَ فِي يَدَيْهِ، وَطُولِبَ بِحِسَابِ مَا جَبَى مِنَ الْأَمْوَالِ مُدَّةَ وِلَايَةِ ذَلِكَ الصَّبِيِّ، فَادَّعَى أَنَّهُ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ، وَزَادَهُ ذَلِكَ نُفُورًا، وَجَاهَرَ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُبَايَنَةِ، وَرَاسَلَ صَلَاحَ الدِّينِ، وَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَاعْتَضَدَ بِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمُسَاعَدَةَ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ.
فَفَرِحَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَوَعَدَهُ النُّصْرَةَ، وَالسَّعْيَ لَهُ فِي كُلِّ مَا يُرِيدُ، وَضَمِنَ لَهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَلِكًا مُسْتَقِلًّا لِلْفِرِنْجِ قَاطِبَةً، وَكَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُرْسَانِ الْقُمُّصِ أَسْرَى فَأَطْلَقَهُمْ.
فَحَلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَحَلٍّ، وَأَظْهَرَ طَاعَةَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَوَافَقَهُ عَلَى مَا فَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَتْحِ بِلَادِهِمْ، وَاسْتِنْقَاذِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ مِنْهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَسَيَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ السَّرَايَا نَاحِيَةَ طَبَرِيَّةَ، فَشَنَّتِ الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، وَخَرَجَتْ سَالِمَةً غَانِمَةً، فَوَهَنَ الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ، وَضَعُفُوا وَتَجَرَّأَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَطَمِعُوا فِيهِمْ.
ذِكْرُ غَدْرِ الْبِرِنْسِ أَرْنَاطَ
كَانَ الْبِرِنْسُ أَرْنَاطُ، صَاحِبُ الْكَرَكِ، مِنْ أَعْظَمِ الْفِرِنْجِ وَأَخْبَثِهِمْ، وَأَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمِهِمْ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ ذَلِكَ مِنْهُ قَصَدَهُ بِالْحَصْرِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَبِالْغَارَةِ عَلَى بِلَادِهِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَذَلَّ، وَخَضَعَ، وَطَلَبَ الصُّلْحَ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهَادَنَهُ وَتَحَالَفَا، وَتَرَدَّدَتِ الْقَوَافِلُ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، وَمِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ.
فَلَمَّا كَانَ هَذِهِ السَّنَةُ اجْتَازَ بِهِ قَافِلَةٌ عَظِيمَةٌ غَزِيرَةُ الْأَمْوَالِ، كَثِيرَةُ الرِّجَالِ، وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، فَغَدَرَ اللَّعِينُ بِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute