للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَوِيَ عَزْمُهُمْ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالِهِمْ، فَرَحَلُوا مِنْ مُعَسْكَرِهِمُ الَّذِي لَزِمُوهُ، وَقَرُبُوا مِنْ عَسَاكِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا سَمِعَ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ عَادَ عَنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ بِمُحَاصَرَةِ طَبَرِيَّةَ أَنْ يُفَارِقَ الْفِرِنْجُ مَكَانَهُمْ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ قِتَالِهِمْ.

وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا عَلَى الْمَاءِ، وَالزَّمَانُ قَيْظٌ شَدِيدُ الْحَرِّ، فَوَجَدَ الْفِرِنْجُ الْعَطَشَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَدْ أَفْنَوْا مَا هُنَاكَ مِنْ مَاءِ الصَّهَارِيجِ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ الرُّجُوعِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَقُوا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى الْغَدِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ أَخَذَ الْعَطَشُ مِنْهُمْ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُمْ فِيهِمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَخَافُونَهُمْ، فَبَاتُوا يُحَرِّضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ وَجَدُوا رِيحَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَكُلَّمَا رَأَوْا حَالَ الْفِرِنْجِ خِلَافَ عَادَتِهِمْ مِمَّا رَكِبَهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ، زَادَ طَمَعُهُمْ وَجُرْأَتُهُمْ، فَأَكْثَرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ طُولَ لَيْلَتِهِمْ، وَرَتَّبَ السُّلْطَانُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْجَالَيْشِيَّةَ، وَفَرَّقَ فِيهِمُ النُّشَّابَ.

ذِكْرُ انْهِزَامِ الْفِرِنْجِ بِحِطِّينَ

أَصْبَحَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَرَكِبُوا وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْفِرِنْجِ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، إِلَّا أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اشْتَدَّ بِهِمُ الْعَطَشُ وَانْخَذَلُوا، فَاقْتَتَلُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَصَبَرَ الْفَرِيقَانِ، وَرَمَى جَالَيْشِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النُّشَّابِ مَا كَانَ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ، فَقَتَلُوا مِنْ خُيُولِ الْفِرِنْجِ كَثِيرًا.

هَذَا الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَالْفِرِنْجُ قَدْ جَمَعُوا نُفُوسَهُمْ بِرَاجِلِهِمْ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ سَائِرِينَ، نَحْوَ طَبَرِيَّةَ، لَعَلَّهُمْ يَرِدُونَ الْمَاءَ.

فَلَمَّا عَلِمَ صَلَاحُ الدِّينِ مَقْصِدَهُمْ صَدَّهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ، وَوَقَفَ بِالْعَسْكَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَطَافَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّضُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَالنَّاسُ يَأْتَمِرُونَ لِقَوْلِهِ، وَيَقِفُونَ عِنْدَ نَهْيِهِ.

فَحَمَلَ مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ الصِّبْيَانِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً عَلَى صَفِّ الْفِرِنْجِ، فَقَاتَلَ قِتَالًا عَجِبَ مِنْهُ النَّاسُ. ثُمَّ تَكَاثَرَ الْفِرِنْجُ عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، فَحِينَ قُتِلَ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ حَمْلَةً مُنْكَرَةً فَضَعْضَعُوا الْكُفَّارَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ كَثِيرًا.

فَلَمَّا رَأَى الْقُمُّصُ شِدَّةَ الْأَمْرِ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ، فَاتَّفَقَ هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>